Logo

قديماً وحاضراً: فلسفة صراع الإنسان

 في دهاليز الذاكرة البشرية، تتراقص صور الماضي والحاضر كظلالٍ على جدارٍ قديم، تنطق بحكاياتٍ لم تُروَ بعد. نتأمل في أسلافٍ حفرت أقدامهم تراب الدروب، لا يبتغون غير رمق العيش، 

ولسعت وجوههم شموس الصحاري الحارقة، ورجفت أجسادهم صقيع الليالي التي تنهش العظم. 

لم يمتلكوا خارطة سوى النجم المتلألئ في سواد السماء، ولا دليلاً سوى عواء الذئب الذي يمزق سكون البيداء، 

ولا رفيقًا سوى الصبر الذي كان خبزهم وماءهم. لقد كانوا يقرأون السماء كما نقرأ اليوم شاشات هواتفنا وخرائط جوجل، مصداقًا لقوله تعالى: "وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ". حتى المسافر الغريب في بعض الأماكن كان يهتدي بأثر خطى الإنسان أو البعير،

 فكانت آثار أقدامهم هي بمثابة خرائط جوجل البدائية التي ترسم دروب الحياة في العراء. 

كانت حياتهم قصيدة ملحمية تُكتب بماء العرق وذرات الرمل، كل لقمة فيها نصرٌ يؤرخ، وكل ميلٍ فيها فتحٌ يُسجل، وكل صباحٍ فيها بعثٌ لحياةٍ لا تزال تقاوم. 

ينامون تحت سقف السماء الرحب، لا يخشون سوى جوعٍ ينهش، أو عطشٍ يلوح، أو غدرٍ يتربص خلف كل صخرة. 

لم تكن في قواميسهم كلمات "تكييف" أو "شاشة" أو "إنترنت"، بل كانت حياتهم هي قاموسهم الأبدي، بكل ما فيها من خشونةٍ وصدقٍ وتجردٍ يلامس الفطرة. 

ألم يكن في هذا التجرد، في هذه الصلة العميقة بالأرض والسماء، سعادةٌ لا ندركها اليوم في زحام الرفاهية؟

ثم هبطنا نحن، أبناء هذا الزمان الذهبي، على بساطٍ من الأسفلت المعبّد، تحيط بنا الأضواء الصناعية الباهرة، وتدلنا الخرائط الرقمية التي لا تخطئ طريقًا، وتوصلنا الأجنحة الفولاذية إلى أقصى بقاع الأرض في غمضة عين. 

نحمل العالم بأكمله في جيوبنا، نتواصل مع الآلاف بلمسة زرٍ واحدة، ونطلب الطعام ونحن نستلقي على أسرّة الوثير، لا نبرح أماكننا. نعيش في قصرٍ من زجاجٍ هش، نملك كل شيءٍ إلا ربما السلام الداخلي، ونشتكي من كل شيءٍ حتى من وفرة النعم. 

المفارقة هنا لاذعةٌ كجرحٍ عميق: أسلافنا، في خضم ما قد نعتبره "جحيمًا" بامتياز، لم يعرفوا للسخط طريقًا. كانت غايتهم النجاة، ووصولهم سالمًا هو أقصى مرادهم وأعظم انتصار. 

لم يقارنوا حاضرهم بغدٍ أجمل، لأن "الأجمل" لم يكن قد وُلِد بعد في مخيلتهم المجرّدة. بينما نحن، في قلب "النعيم" الذي لا يُجارى، نتقلب بين ضجرٍ وقلقٍ وتأففٍ من أبسط العقبات. يتأخر الإنترنت ثانية، فتعلو صرخاتنا. 

تتعطل السيارة لدقيقة، فنلعن الزمان والأقدار. تُرى، هل أفقَدَنا هذا التدليل المفرط معنى التعب الحقيقي؟ 

هل أطفأ فينا جذوة الشغف التي تدفع الإنسان لتحقيق المستحيل؟ 

هل باتت سهولة الوصول تقتل لذة الإنجاز، وتحوّل النعم إلى مجرد حقائق مسلم بها لا تُثير فينا أي امتنان؟

لم يكن الماضي "أجمل" بالضرورة، بل كان "أصدق" وأعمق أثرًا في صقل النفوس. كان يفرض على الإنسان أن يواجه ذاته المجردة، وأن يستخرج من أعماقه قوة لم يكن ليعرفها لولا الشدائد القاسية. 

كان يربطه بالأرض الأم، بالسماء الأزلية، بالنجوم التي كانت خير دليل، بعواء الذئب الذي يذكر الوجود الهش للإنسان. لقد أوجدت تلك المشاق رجالاً لا يُساومون على الحياة الحقة، لأنها كانت تجري في عروقهم مع كل نبضة قلب.

 بينما نحن، في رغدنا الزائف، قد غدونا أسرى للزيف والسرعة المفرطة، نخاف من الصمت الذي قد يُواجهنا بأنفسنا، ونبتعد عن العزلة التي قد تكشف ضعفنا، ونلهث خلف ما هو آنيٌّ زائل، يخدعنا ببريقٍ خاطف.

وبينما نفاخر بما حققناه من تقدمٍ مذهل، يتسلل سؤالٌ خطيرٌ إلى القلوب، سؤالٌ يمزق حجاب الغرور: هل نصنع، دون أن ندري، "جحيمًا" من نوع آخر لأجيالٍ قادمة؟

 جحيمٌ لا يتمثل في قسوة الطبيعة الغاشمة، بل في قسوة الروح العصرية. جحيمٌ من الوحدة الرقمية التي تربط الأجساد وتفصل الأرواح، من القلق الوجودي الذي لا يجد له مبررًا، من ضياع المعنى في خضم وفرة الوسائل. 

هل سيأتي يومٌ يضحك فيه أحفادنا على "آلامنا" في زحمة المرور الخانقة، أو "قلقنا" من بطء الشبكة العنكبوتية، كما نضحك نحن اليوم على خوف أجدادنا من عواء الذئب المخيف؟ 

هل سيجدون في معاناتنا من الرفاهية المفرطة ما يثير سخريتهم، كما نجد نحن في مشقاتهم البدائية ما يثير تعجبنا؟ 

ربما... فالحقيقة الأبدية هي أن الإنسان، مهما تبدلت ظروفه وتبدلت معه السبل، سيظل يبحث عن السكينة الحقيقية. ومهما بلغ من رفاهية، سيظل تائهًا إن لم يجد لمعنى وجوده طريقًا واضحًا. 

فلنحمد الله على نعيمه الظاهر الذي يحيط بنا، ولنتأمل في نعيمه الباطن الذي هو السلام الروحي، ولنسأل أنفسنا بصدق: ماذا سيقول عنا الزمن القادم، ونحن نُحمل العالم كله في جيوبنا، لكننا ربما لا نجد أنفسنا فيه؟