Logo

كهنة الجمهورية وأشباه المواقف!

 في زمنٍ غائمٍ بالخذلان، مثقلٍ بالغبار والدم والمراوغات، يخرج علينا من يتزيّا بثياب الطهر، ويصطنع لنفسه مقامًا نبوّيًا باسم الجمهورية، فينصّب ذاته حارسًا على معناها، ومُفتياً بحدودها، ومُوزّعًا لصكوك الوطنية والغفران، ومحاكم التفتيش لمن خالفه حرفًا أو رأيًا أو وجعًا.

من هؤلاء، الكاتب غائب حواس .

كتب بالامس بصفحته على موقع فيسبوك ،منشورًا ردّ فيه على ردي على مناكفاته المشخصنة، لا عن طريق المحاججة الحرة ولا بلغة الانصاف، بل بأداءٍ ناعمٍ متعالٍ، مشبعٍ بالتوبيخ المغلّف، والنرجسية المواربة، والارتقاء الزائف على منابر الأخلاق.

اتهمني فيه بـ"الحقد والشتائم"، وكأن الحقيقة إذا نطقت بحدّتها تُصبح قذفًا، وكأن وصف المواقف الهشة والمواقف المتلونة هو خروج على ملة الرُشد!

 نسي، أو تجاهل، أن نقدي لم يكن نابعًا من خصومة شخصية،بيني وبينه فلم يسبق ان عرفته ، بل من إيماني أن الوطن لا يُبنى على البلاغة وحدها، ولا الثورة تُصان بالإنشاء، ولا الجمهورية تُحرَس بالأحلام المؤجلة.

الهوى حين يُلبس ثوب الحكمة

المفارقة الكبرى أن غائب، وهو الذي يلعن الإمامة بلسانه، لا يفتأ يُطارد كل من وقف ضدها بوضوح لا لبس فيه.

ينشغل دائمًا بتسفيه المواقف الجريئة، ويجتهد في شيطنة الأصوات التي اختارت المواجهة لا المداراة، في حين يكتفي هو بلغة "التحليل الموضوعي" الذي لا يُغضب أحدًا، ولا يُوجع خصمًا، ولا يُقدِّم تضحية.

نقده لكل من اسقطوا الجمهورية والعاصمة صنعاء ،دائمًا ما يأتي دافئًا، مسالمًا، كأنما كُتب بعنايةٍ كي لا يُزعج السادة الكهان.

أما حين يتعلق الأمر بمن صرخوا في وجه الكهنوت، من نزلوا إلى الشارع، وسُجنوا، وشُرّدوا، وطوردوا في عقر دارهم، فإن خطابه يتحوّل إلى ميزان أخلاقي باهت، أو مرافعةٍ ضد "الانفعال والتطرّف"!

هنا يُطلّ علينا وجه الكهنوت المدني، حيث لا عمامة فوق الرأس، بل غطرسة فكرية مغلّفة بالأدب، تتلو علينا آيات الوطنية من منابر "الحياد"، بينما تصمت عن السفاح، وتُعاتب المقاوم، وتوبّخ الجريح لأنه "نزفَ بصوتٍ عالٍ".

بين الموقف والمجاز

إن اتهامه لي بمحاولة "تشذيب الخوثي" ليس سوى مجاز فقير.

أنا لم أحاول تزيين السكين ولا تنعيم الحدّ، بل وقفت، وصرخت، وسُجنت، لأنني واجهتهم من  قلب العاصمة صنعاء، لا من وراء الشاشة، بل من قلب المدينة التي التهمها الجوع والخوف.

كان موقفي – وما يزال – صلبًا، علنيًا، صريحًا، لا يستعير توازناته من الخارج، ولا يُراعي شروط "السوق السياسي"، ولا يلتفت خلفه ليرى مَن غادر الصف ومَن بقي.

أما هو، فكل ما يقدّمه، تمرين بليغ على الهروب من تسمية الأشياء بأسمائها، على مراوغة الحسم، وتحويل الثورة إلى استعارةٍ، والوطن إلى حقل لغويٍّ لتجار التحليل.

أنا لا أرد لأدافع عن نفسي.. بل عن ذاكرة

أنا لا أكتب هذا الرد لأصفي حسابًا، بل لأدافع عن المعنى، عن الفكرة، عن وجوهٍ تكسّرت خلف القضبان، عن صرخاتٍ لم تسمعها المقالات المعطرة، عن ذاكرةٍ مثقوبةٍ بالخذلان، تحاولون ترميمها بالكلام الجميل.

لم أختر الصدام، بل فُرض عليّ. لم أتغذّ من "الشتم"، بل تشظّيت من أجل كلمة، وسُحقت لأجل موقف، وخرجت من السجن أكثر صدقًا، لا أكثر تهذيبًا.

وإنني لأعجب من كاتبٍ لم يُجرّب وجع المعتقل، ولا نَفَس الطغيان على عنقه، ويجلس الآن، يُلقي علينا خطب الأخلاق، ويُحاسبنا لأننا لم ننتقِ ألفاظَ صراخِنا بما يليق بـ"أذنه الناعمة".

ليس الكاهن مَن يلبس العمامة فقط

الكهانة ليست عمامة فوق الرأس.

الكاهن الجديد هو من يُملي عليك كيف تكون جمهوريتك، وكيف تحب وطنك، وبأي لغة تصرخ حين تُذبح.

الكاهن هو من يحتكر معنى الوطن، ويطلب منك أن تكون نبيًا صامتًا، لا تُحرّك يدًا، ولا ترفع حاجبًا، كي لا تفسد جمال المشهد العام!

الجمهورية، يا غائب، ليست مِلْكًا لأحد، لا لي، ولا لك، ولا لأي فقيه لغوي مترف.

هي صرخة المظلوم، ودم الشهيد، وكفّ المقاوم، وعين الأم المترقبة لابنها المخفي في غياهب السجون.

هي المعنى الذي لا يُعلّب، ولا يؤمم، ولا يُختزل في مقالة باذخة، أو منشور مُنمّق.

أما حديثك عن "تشذيب الخوثي" فأضحكني! لم أكن أزرع الزهور في لحى الكهنة يا غائب، بل كنت أواجههم من الداخل، كصوت يصرخ بالحقيقة في وجه البطش والكهنوت.. أما أنت، فكنت 

تتفاخر بأنك لعنت "الإمامة" من البداية.. طيب، وماذا بعد؟ هل اللعن وحده يُعفيك من المساءلة؟ 

اللعن دون موقف عملي لا يساوي شيئًا، تمامًا كالماء الذي يُسكب على صخرة.

وهنا الفرق بين من واجه المشروع الإمامي بجلده، ودمه، وسنوات عمره، وبين من اكتفى بشجب ناعم وتصريحات متلفعة بالادعاء والنقاء الزائف.

أما اتهامك لي بمحاولة "الردح الشخصي"، فتلك نكتة سمجة. فأنت الذي حاولت تحويلي من قضية إلى شخص، ومن موقف إلى عقدة، ثم جئت تتباكى على "مستوى الحوار"!

إذا لم تكن القضية شخصية، فلماذا كرست نصف ردك في شخصي؟ أم أنك تظن أن اللف والدوران والتلميحات النرجسية تُخفي نيتك الحقيقية في تسفيه خصومك؟

تقول إنني أطلقت لقب "كاهن الجمهورية" عليك كأنها شتيمة.

وأنا أقولها بوضوح: نعم، أنت أحد الكهنة الجدد، تحرس المعبد الجمهوري الذي صممته على مقاسك، تُوزّع فيه صكوك الوطنية والغفران، وتلعن الخارجين عن نصّك.

لكنّنا لا نؤمن بكهانة تُمارس باسم الجمهورية، ولا نخشى جماعة، ولا أفراداً يحاولون الاستحواذ على مفهوم الوطن لحسابهم.

الجمهورية ليست منبرًا لكتّاب السلطة الظليين، ولا منصة لتجار اللغة، بل صراع وجود ومصير، والمواقف فيه تُقاس بكلفة الثمن لا ببلاغة التغريد.

فيا غائب، لا تغتر بطول النص، ولا بغلاف الموضوعية، فالحقيقة لا تُختصر بالكلام الكثير، بل بالفعل القليل الصادق.

ولك أن تعلم أنني لا أهاجمك لأنك خالفتني، بل لأني شممت في خطابك رائحة تزييف مضرّة، تمارس التجميل البارد لقضايا يُذبح فيها الناس، ويُسجن فيها الأحرار.

تحاول أن تصنع من نفسك قامة فكرية فوق الردح والقدح، بينما في الواقع تمارس أسوأ أنواع الازدراء للخصوم، وتختبئ خلف كلمات منمقة، تحشوها بتلميحات سمجة، وتصنع منها قفصًا من الوهم والتعالي.

أيها الغائب عن المبادئ، الحاضر في كل طاولة حساب، كفّ عن لعب دور الضحية. فلست ضحية إلا لأوهامك عن ذاتك، أما نحن، كنا ومازلنا على الجبهة، بالكلمة والموقف، والاعتقال، بينما كنتَ تُدوّن تغريدات مترددة مثلك.

وختامًا، لا تحاول أن تُظهرني كأنني أبحث عن خصام شخصي، فأنا لا أرى فيك خصمًا يُخشى، ولا موقفًا يُحترم، بل حالة تائهة، تتأرجح بين الانتهازية والنرجسية،  والحقيقة لا تحتاج إلى تزويق: أنت كنت غائبًا حين حضرت المواقف، وحاضرًا فقط حين نادى المزاد.