بؤس الحقيقة وسُكْرِ الأمل: اليمن كنموذج للخلاص المؤجل
في متاهاتِ المجتمعاتِ المكلومة، حيثُ الوجعُ يتوارى خلفَ أقنعةِ الصبرِ، يصبحُ الأملُ ترفًا يُثيرُ الريبة.
يُساقُ للناسِ قولُ "اصبروا، فغدٌ أجملُ آتٍ"، لكنّ الغدَ يمضي كسابقهِ، لا يحملُ في طيّاتهِ سوى أزيزِ الانتظار. وبينما تتآكلُ الأعمارُ في طوابيرِ القهرِ الطويلةِ، وتذبلُ الأرواحُ في أزقّةِ اليأسِ المعتمةِ،
يُطلُّ علينا الأملُ كـ"مُخدّرٍ جماعيٍّ"، لا يُشبعُ بطنًا خاويًا، ولا يُشيّدُ بناءً لوطنٍ مُهدّمٍ.
ولعلَّ اليمنَ تُمثّلُ اليومَ مرآةً صافيةً لهذه المأساةِ الوجوديةِ. بلدٌ مزّقتهُ حروبٌ طاحنةٌ، وعطّلتهُ صراعاتٌ لا تنتهي، وعلّقَ فيهِ الناسُ أمانيهم على "تحريرٍ قادمٍ"، و"تحالفٍ حاسمٍ"، و"شرعيةٍ ستعودُ"،
بينما الواقعُ يزدادُ قتامةً وانحدارًا. عقدٌ من الانتظارِ المُرّ، لم يُثمرْ نصرًا، ولم يُداوِ جرحًا، لأنّ الأملَ وحدهُ كانَ يملأُ الفراغَ، بلا رؤيةٍ واضحةٍ، بلا مشروعٍ حقيقيٍّ، بلا مواجهةٍ للحقيقةِ بجسارةٍ لا تعرفُ الوجل.
أجل، قد يكونُ الأملُ فضيلةً تُضيءُ الدروبَ إذا رافقهُ وميضُ وعيٍ ونبضُ عملٍ، لكنّهُ يتحوّلُ إلى لعنةٍ حالما يُستخدمُ لطلاءِ القبحِ بألوانٍ زاهيةٍ، أو لتخديرِ الألمِ بدلًا من اقتلاعِهِ من جذورهِ.
هنا، يتجاوزُ الأملُ وظيفتهُ الإنسانيةَ الساميةَ، ليغدوَ أداةً في قبضةِ الطغاةِ، وسوطًا في يدِ الساسةِ المتلاعبينَ، وسقفًا وهميًا تُعلّقُ عليهِ الجموعُ فشلَها وخذلانَها. في اليمنِ، تواطأَ الجميعُ معَ هذا الأملِ الزائفِ:
أطرافُ الحربِ التي تتغذّى على دماءِ العبادِ، والإعلامُ الذي يُزيّفُ الوعيَ، وحتى بعضُ رجالِ الدينِ الذينَ صوّروا العجزَ فضيلةً، والانتظارَ إيمانًا.
في ظلالِ هذا الواقعِ المُعتمِ، يُطلبُ من الإنسانِ أن يكونَ مُتفائلًا أبدًا، أن يحلمَ رغمَ الجوعِ الذي ينهشُ أمعاءَهُ، أن يبتسمَ رغمَ الخرابِ الذي يحيطُ بهِ من كلِّ جانبٍ، أن ينتظرَ الفرجَ من العدمِ المحضِ.
لكنّ الحقيقةَ المُجرّدةَ تُخبرنا أنّ الإنسانَ الذي يرقبُ الخلاصَ من الخارجِ، يظلُّ أسيرًا في أعماقهِ، مهزومًا تحتَ وطأةِ ما لا يملكُ زمامهُ.
وهكذا انتظرَ اليمنيونَ الحلَّ من تحالفٍ خارجيٍّ، أو قراراتٍ أمميةٍ تُشبهُ الوعودَ السرابيةَ، أو انقلابٍ جديدٍ على الانقلابِ القائمِ،
فيما الحقيقةُ الفلسفيةُ تُعلنُ أنّ الخلاصَ لا يهبطُ من عُلوِّ السماءِ، بل ينبثقُ من عمقِ الأرضِ: من وعيِ الناسِ المتجذّرِ، من نهضةِ المجتمعِ الحيّةِ،
من مشروعٍ وطنيٍّ يولدُ من رحمِ الداخلِ، لا يُستوردُ من حواضرِ الخارجِ.
الواقعيونَ لا يُعادونَ الأملَ، بل يُعيدونَ صياغةَ معناهُ العميقِ: ليسَ الأملُ أن تستكينَ تحتَ شجرةٍ وتترقّبَ سقوطَ الثمارِ،
بل أن تغرسَ البذورَ، وأن تتعثّرَ وتتألّمَ، وأن تُدركَ أنّ الثمارَ لا تُهدى لمن يتمنّى، بل لمن يزرعُ رغمَ قحطِ الأرضِ، ويصمدُ رغمَ الخذلانِ الذي يلفحُ الروحَ.
واليمنُ لن تُبنى بالخطبِ الرنانةِ ولا بالشعاراتِ الجوفاءِ، بل بتأسيسِ اقتصادٍ صغيرٍ ينهضُ من تحتِ الصفرِ، بتأهيلِ الإنسانِ كقيمةٍ عليا، بترميمِ العقلِ قبلَ إصلاحِ الجدرانِ المُتهدّمةِ.
الحديثُ عن النصرِ لا يملكُ معنىً حقيقيًا ما لم يُفتحْ ملفُّ "ما بعدَ النصرِ"، وما لم يُبْنَ وعيٌ سياسيٌّ ووطنيٌّ عميقٌ يصقلُ الناسَ كأدواتِ بناءٍ لا مجردَ متفرجينَ على معركةٍ طويلةِ الأمدِ.
في زمنِ الهروبِ الجماعيِّ من الحقيقةِ المُرةِ، يصبحُ أصدقُ الأبطالِ هم أولئك الذينَ ينظرونَ في عيونِ الواقعِ دونَ وجلٍ أو تزييفٍ، ويُعلنونَ بملءِ الفمِ: نعم، نحنُ في حفرةٍ عميقةٍ.
نعم، الفسادُ مستشرٍ كالوباءَ، والفقرُ خانقٌ يُضيّقُ الأنفاسَ، والجهلُ يُطوّقُ العقولَ... لكنّ الخلاصَ لا يأتي من السماءِ وحدها، بل من عقلٍ يثورُ على الجمودِ، ويدٍ تعملُ بلا كللٍ، ووعيٍ لا يُباعُ في أسواقِ الخطابةِ والشعاراتِ المزيفةِ.
فلنُسمِّ الأشياءَ بأسمائها الحقيقيةِ دونَ مواربةٍ:
"الأملُ بدونِ خطةٍ" خيانةٌ لا تُغتفرُ.
"الصبرُ بدونِ وعيٍ" تواطؤٌ مُخزٍ.
"الدعاءُ بدونِ سعيٍ" هروبٌ جبانٌ.
و"الحلمُ بدونِ أقدامٍ على الأرضِ" مجرّدُ سرابٍ يُبهجُ البلهاءَ لا أكثرَ.
فلنُعدْ النظرَ في مفرداتنا الروحيةِ والواقعيةِ. لنُسائلْ المقولاتِ الجاهزةَ التي ورثناها. ولينتبهْ اليمنيونَ أنَّ الطريقَ إلى النصرِ الحقيقيِّ لا يمرُّ عبرَ الأمنياتِ الشفافةِ، بل عبرَ هندسةِ واقعٍ جديدٍ، يُشاركُ فيهِ الجميعُ بفعاليةٍ،
ويُؤسّسُ لمنظومةٍ عقليةٍ، سياسيةٍ، واقتصاديةٍ لا تنتظرُ المعجزاتِ، بل تُبادرُ إلى صُنعِها. حينها فقط، يكونُ للأملِ معنىً جوهريًا. أما ما دونهُ، فـ وهمٌ جميلٌ، لكنّهُ قاتلٌ يدمرُ الأرواحَ والبلدانَ.