Logo

ابن خلدون والواقع اليمني: جدلية العمران والخراب

 لو قُدر لابن خلدون، مؤرخ الاجتماع وفيلسوف العمران، أن يبعث اليوم ويطأ أرض اليمن، لتوقف طويلاً أمام مشهدٍ يجسّد نظرياته عن العصبية، الدولة، الجهل والوعي، والعمران والخراب،

 ليس كظواهر منفصلة، بل كنسيج متداخل يشد بعضه بعضاً في دراما اجتماعية وسياسية فريدة. 

اليمن، في رؤية خلدونية، ليس مجرد بلدٍ يمر بظروف استثنائية، بل هو مختبر حي لدورات الحضارة والتدهور، ومسرحٌ تتجلى فيه قوانين الاجتماع البشري بكل وضوحها وقسوتها.

العصبية: من قوة البناء إلى آلة الهدم

كان ابن خلدون يرى في العصبية القوة الدافعة لقيام الدول والممالك، الرباط الذي يجمع الأفراد ويوحدهم لتحقيق الغايات المشتركة. 

في اليمن، لا تزال العصبية القبلية، والمناطقية، وحتى الطائفية، حاضرة بقوة طاغية. لكن ما كان يجب أن يكون قوة بناء واندفاع نحو العمران، تحول في كثير من الأحيان إلى آلة هدم وتفتيت. 

فبدلاً من أن تتحد العصبيات الكبرى لتكوين دولة قوية جامعة، نجدها تتصارع وتتنافس، كلٌ يسعى لفرض نفوذه على حساب الآخر. 

هذا التناحر العصبي، الذي يتغذى من مخزون هائل من الثارات القديمة والمظالم المتراكمة، يحول اليمن إلى فسيفساء من الكيانات المتنازعة، يعيق أي محاولة جادة لبناء دولة مركزية قوية ومستقرة. 

إنها عصبيةٌ مريضة، تدفع نحو التشرذم بدلاً من التوحيد، وتنتج خراباً مستمراً بدلاً من العمران المنشود.

الدولة: غياب السلطة المركزية ودورات الانهيار

أفرد ابن خلدون مساحة واسعة لدور الدولة في تحقيق العمران. فالدولة القوية هي التي تضبط الفوضى، تنشر العدل، وتوفر الأمن، مما يسمح بازدهار الاقتصاد وتطور الحضارة. 

أما في الواقع اليمني، فتبدو الدولة بمفهومها الخلدوني حلماً بعيد المنال. لقد شهدت اليمن عبر تاريخها الطويل دورات متكررة من قيام دول وانهيار أخرى، لكن ما يميز الفترة الحالية هو ضعف أو غياب السلطة المركزية القادرة على بسط نفوذها على كامل التراب اليمني. 

هذا الفراغ السلطوي خلق بيئة خصبة لنمو العصبيات المتناحرة، ولتدخل القوى الخارجية التي وجدت في اليمن مسرحاً لتصفية حساباتها. 

إن الخراب الراهن ليس مجرد نتيجة لصراع عسكري، بل هو تجلٍّ لانهيار البناء الاجتماعي والسياسي الذي كانت الدولة تضبط إيقاعه، مما يدفع المجتمع اليمني نحو براثن الهمجية وغياب القانون.

الجهل والوعي: صراع الرؤى وتشويه الحقائق

يتحدث ابن خلدون عن تأثير الوعي والجهل في صعود الحضارات وتدهورها. الوعي بالصالح العام، بالوحدة، وبأهمية البناء المشترك هو أساس أي نهضة. 

في المقابل، يقود الجهل إلى التعصب، الانقسام، والرضوخ للأوهام. الواقع اليمني يمثل صراعاً مريراً بين محاولات محدودة لنشر الوعي بأهمية الدولة والمواطنة، 

وبين جيوش من الجهل والوعي الزائف، تُغذيها خطابات الانقسام، والتعبئة الطائفية، والمصالح الضيقة. هذا الجهل لا يقتصر على الأمية الأبجدية، بل يمتد ليشمل جهلاً بتاريخ اليمن العظيم، بوحدته المتجذرة، وبقدرته على تجاوز المحن. 

عندما يسيطر الجهل، يصبح من السهل على أصحاب الأجندات تضليل الناس، وتشويه الحقائق، وتحويل بوصلة الصراع من البناء إلى التدمير، ومن التعاون إلى التناحر.

العمران والخراب: دورة لا تنتهي؟

ربما كان الفصل الأكثر إيلاماً في كتاب ابن خلدون عن اليمن سيكون عن العمران والخراب. فالأول يعبر عن ازدهار المدن، تطور الأسواق، واستقرار الناس، بينما الثاني هو نقيض ذلك. 

اليمن اليوم، وبكل أسف، يعيش ذروة الخراب. مدنٌ كانت عامرة دُمرت، بنى تحتية انهارت، واقتصادٌ تهاوى. 

هذا الخراب ليس مجرد نتيجة عرضية للحرب، بل هو نتاج مباشر لتلك الصراعات العصبية، وغياب الدولة، وسيادة الجهل على الوعي. 

إنه تجسيد حي لدورة ابن خلدون التي تشير إلى أن الدول عندما تبلغ أوجها، يبدأ فيها دبيب الترف والتفكك، ثم تنهار وتخلفها دول أخرى.

 لكن في الحالة اليمنية، تبدو هذه الدورة وكأنها محاصرة في مرحلة الخراب، دون أفق واضح لدورة جديدة من العمران.

هل اليمن محكوم عليه بدورة لا نهائية من التفكك والخراب؟ أم أن هناك بارقة أمل لظهور عصبية جديدة، عصبية وطنية جامعة تتجاوز العصبيات الفرعية، 

تبني دولة قوية على أنقاض الضعف، وتنشر الوعي بدلاً من الجهل، لتعيد العمران إلى أرض كانت مهداً للحضارات؟ 

سؤالٌ يطرحه الواقع اليمني المرير على كل من قرأ مقدمة ابن خلدون بتمعن، وعلى كل من يحمل هماً لبلد عظيم بات مثالاً حياً لتحديات قوانين العمران البشري.