Logo

اليمن: من شمس الحضارة إلى ظلال المليشيا .. وسيعود النور

 في البدء، كانت اليمن. لا مجرد أرض في الجنوب، بل بوصلةٌ للزمان، توقظ التاريخ من سباته وتقول له: "اكتب". كتبت اليمن أول أبجديات الإنسان، خط المسند المقدس ، قبل أن تنطق الألسن بالأديان. 
وعبد اليمنيون الله حنفاء قبل أن تُنزل الصحف، وعمروا الأرض قبل أن تُخطط المدن على الورق.
بل هم من نحتوا من الجبال قصورا، ومن العقول حكمة، ومن الدم صبرا وبأسا لا يُضاهى. 
كما حملوا التوحيد لا شعارا سياسيا، بل عقيده قبل أن تكون الأديان سلعةً تفاوضية. 
واليوم، بعد كل هذا المجد، ما الذي يحدث؟ يُسأل التاريخ، فيصمت، خجلا من حاضرٍ لا يليق بسِفر من ذهب.
فاليمن التي صدرت التجارة قبل النفط، والشورى قبل الديمقراطيات المستوردة، والتي أنشأت سد مأرب لا لاحتكار المياه، بل لتنظيمها، تجد نفسها اليوم غارقة في سيل جديد: سيل العُقم السياسي، والاقتصادي، والمذهبي.
أي أن أرض القوة والبأس، صارت حبيسة مليشيا تعغلّف التخلف بعباءة "الوصاية الهاشمية"، وتفرض على الجمهورية قناع الإمامة بنسخة كربونية من عصور الظلام. 
سقطت فيها الدولة، لا لانعدام الموارد، بل لانعدام الرؤية. وكأن من يحكمها اليوم يتقن فن تحويل الذهب إلى تراب.
..شعبٌ تاريخه السماوات، وحاضره الطوابير. من الطابور في محطة الوقود، إلى طابور الخبز، إلى طابور انتظار "الراتب". أهذا شعبٌ فقير؟ لا. بل منهوب. 
تُنهب موارده كما تُنهب ذاكرته، في محاولة لتزييف الهوية اليمنية، واستبدالها بنسخة معدلة من "القومية المذهبية"، ذات الامتداد العابر للحدود.
لكن مهلا.. إن كان في هذا السواد نكتةٌ سوداء، فهي أن اليمني -رغم كل شيء- ما زال يزرع، ويبني، ويقاتل. بل لم يفقد شجاعته، ولا دهاءه. فقط ضاق ذرعا بحمقى التاريخ الجدد. وهنا يكمن الأمل.
فقومية اليمن ليست شعارا يُرفع، بل مشروع حياة يُعاد بناؤه. وليست مجرد ردّ فعل على القومية الهاشمية المتغولة، بل عودة للأصل، للهوية التي لا تحتاج تبريرا. ففي زمن يتصارع فيه الجميع على "أصل النسب"، تنفرد اليمن بأنها "نسب الأصل".
أي أن اليمن القادمة ليست نسخة معدلة من الماضي، بل مستقبلٌ يتكئ على حضارة عمرها آلاف السنين.اي اليمن القادمة ليست خالية من التحديات، 
لكنها ممتلئة بالإرادة.و إن سقط سد مأرب يوما، فقد بُني من جديد. وإن تهدمت الدولة، فستُبنى، فقط حين يقرر اليمني أنه كفى عبثا.
وها نحن نقترب من تلك اللحظة.
فمن أرض كتبت التاريخ، لن يعجز شعبها عن إعادة كتابته، وإن طال الانتظار.
بمعنى أدق فإن اليمن هي الأصل، وهي المستقبل أيضا.
واليمن ليست دولةً فاشلة، بل أمةٌ مختطفة. تُدار اليوم بعقلية الكهنة وتُحاصَر بجهل العسكر، كأنها تُعاقَب لأنها كانت مهد الفجر. 
بلدٌ أنتج حضارة البن والتبغ والعسل والحنيذ والسيوف والبخور، صار ينتظر كيس قمح من تاجر سلاح.
صحيح أن اليمن ليست فقيرة، بل ثرواتها موزعة بين بنوك الخارج ومخازن الداخل.
لكنها ليست جاهلة، بل تُجهل عمدا، لتبقى قابلة للركوع. 
صحيح كذلك أن شعبها لا يُشبه زُعماءه، بل يُشبه نبوءةً مؤجلة. 
لكن في ثقافتها سيوف ترقص لا لتذبح، بل لتحتفل بالحياة. وفي فلسفتها: البقاء ليس للأقوى، بل للأصلح.
والأصل يماني. 
وعليه فإن القومية اليمنية ليست عصبية، بل انتماءٌ يزرع ويصبر ويحصد. 
لا تموت، بل تتكاثر في الشدائد. 
وكل الحروب عليها وكل اليقين بها. 
فحين تضع الشعوب أحلامها في المنفى، يضع اليمني بلاده في قلبه… ويبدأ من هناك.
اما نبوءات النبي محمد  عن اليمن فليست مجرد كلمات بل شهادات ختمها الوحي.
اولوا قوة وصبر وبأس شديد 
و
 "الإيمان يمان، والحكمة يمانية" ليست مجازا، بل وعدٌ إلهي أن هذا الشعب، مهما انكسر، سيقوم. 
ومهما تفرق، سيتحد. 
ومهما جاع، سيشبع. 
ففي زمن التيه، يكفي اليمن أن الرسول زكى أهله ،وهل بعد تزكية النبوة من شهادة؟
أذكّركم بذلك: لأنها اليمن، أرض قحطان الأسطورية، جذور العروبة الأولى، ومهد الشعوب العربية.
بل لا تكاد دولة في العالم إلا وفي دمها نقطة يمانية، وعرق يماني أو في لهجتها أثر من الجنوب العظيم.
ثم إن اليمن لا تُختصر في حدود، لأنها باقية في الوراثة، في اللسان، وفي الوجدان الإنساني منذ البدء.
وصدقوني:
 ليست اليمن مجرد وطن، بل ذاكرة البشرية حين كانت الحضارة تُبنى بالحكمة لا بالحديد. وحين كانت القلوب أرقّ من أن تكره، وأقوى من أن تُكسر.
وعموما:
نحن في البر والبحر معا، في قلب الجغرافيا وميزان المصالح العالمية .
من بحر العرب إلى خليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر ودوله، كما من هرمز إلى قناة السويس، والبحر الأبيض المتوسط.
نحن عقدة الملاحة ومفتاح الأمن العالمي. موقعنا الاستراتيجي لا يتكرر، نعرف .
لكننا نُدار بعقليات تقرأ البوصلة بالمقلوب، وتبيع البحر برغيف، والحضارة والتاريخ بسعر حطب!