Logo

الأمة التي تكتب حريتها: كيف ينتصر العقل على خرافة الولاية

 في منعطفات التاريخ القاتمة، لا تقتصر الانتصارات على قوة السلاح، بل تتحقق حين تستيقظ الأمم من سبات الخرافة وتتحرر من قيود الكهنوت. 

اليمن، هذا البلد الذي طالما صُلب على جدار الصبر، لن يكتب حريته بالبنادق وحدها، بل بالوعي العميق والمعركة الفكرية التي تجتث جذور الزيف من أعماق الوجدان. 

اليوم، يقف اليمن على مفترق طرق حاسم: إما أن يعيد كتابة سرديته كأمة حرة متساوية في الحقوق والكرامة، أو يبقى رهينة سلالة تدّعي حقاً إلهياً وتحكم بإرث مظلم من العبودية والتمييز.

الزيدية الجارودية ليست مجرد تيار فقهي عابر، بل هي مشروع سياسي إمامي خطير يرى أن السلطة ليست حقاً شعبياً، بل إرثاً محصوراً في نسل معين. 

إنها نسخة متصلبة من نظام "السيد والعبد"، يرتدي عباءة الدين، لكنه في جوهره فكر عنصري يقسّم الناس إلى درجات بناءً على نسبهم، ويمنح "السادة" حق القيادة والامتياز، ويفرض على "العامة" الطاعة والخضوع.

 هذا الفكر ليس سوى حيلة سياسية محكمة لإعادة تدوير نظام الإمامة في ثوب حديث. 

إيران أعادت إحياءه، والحوثيون أعادوا تسويقه لليمنيين على أنه "مقاومة"، بينما هو في الحقيقة احتلال داخلي للهوية اليمنية.

ليست الجيوش وحدها من تحرر الأوطان. بل إن العقلاء والمثقفين والوطنيين الصادقين هم رأس الحربة في معركة الحرية. 

هؤلاء الذين يحملون لواء الفكر، ويؤمنون بالإنسان، ويرفضون تأليه العائلة والسلالة، تقع على عاتقهم اليوم مهمة تحرير اليمن فكرياً. 

الصمت في وجه الظلم جريمة، والمجاملة خيانة. المعركة اليوم ليست بين الحوثيين وخصومهم السياسيين، بل هي معركة وجودية بين الخرافة والحرية، بين الولاية والجمهورية، بين فكر القبيلة وفكر الدولة.

عندما قامت ثورة 26 سبتمبر، لم تكن مجرد ثورة مسلحة، بل كانت ثورة وعي ضد نظام توريثي لاهوتي. 

لكن هذا الوعي أُهمل، وتُركت المساجد والمنابر والمناهج والهوية الثقافية في قبضة من يسعون لقتل الروح الجمهورية من الداخل.

 لذلك، فإن الواجب الأول اليوم هو إعادة بناء وعي وطني جامع، وإنتاج خطاب ثقافي مقاوم يعيد للجمهورية قيمتها الحقيقية، لا مجرد شعار، وتفكيك خطاب الولاية بأسلوب عقلاني يحترم الدين ويكشف من استغلوه لمصالحهم.

المعركة ضد الفكر الجارودي لا تُحسم بالسلاح فقط، بل تحتاج إلى منهج تعليمي جديد ينزع الفتيل الطائفي من عقل الجيل الجديد، وإعلام جمهوري صادق لا يخشى فضح خرافات الولاية، 

وكُتّاب وفنانين وشعراء يحيون الذاكرة الجمعية وينقلون السردية من يد الجلاد إلى صوت الضحية، وتحالف وطني فكري يتجاوز المناطقية والحزبية، وهدفه الوحيد: تحرير الإنسان اليمني من لعنة النسب والتبجيل الطبقي.

إن اليمن لا ينقصه الشهداء، بل ينقصه الوعي الذي يمنع تكرار المأساة. 

لقد حان الأوان للعقلاء أن يتحرروا من الصمت، وأن ينفضوا عنهم غبار الخوف والمجاملة، ليقودوا الأمة نحو خلاصها المنشود. 

فالأمة التي تكتب حريتها لا تنتظر الفرج، بل تصنعه بفكرة، وتبنيه بوعي، وتحميه بصدق لا يساوم على الكرامة. لأن الجارودية سلالة من الظلام، ولا يطفئ الظلام إلا نور العقل.