Logo

إسرائيل فائض القوة والإرهاب

في التجربة الإسرائيلية، العنف المفرط حيال الفلسطينيين وسياسة فرض الأمر الواقع قد يصنعان مع الوقت حقائقَ جديدةً في الأرض، إذ أن فائض القوة العسكرية ومركزية مقولات "إسرائيل الكُبرى"، التي تدعمها عقيدة يمينية متطرّفة، يعنيان المضي في استراتيجية ممنهجة لضمّ الأراضي الفلسطينية المحتلّة، من الضفة الغربية إلى قطاع غزّة، وتحويل القطاع في الوقت الراهن مسرحاً تجريبياً لاختبار الإرادة الإسرائيلية،

 فتلتقي مزاعم استعادة الرهائن الإسرائيليين وتفكيك عدو متربّص بأمنها بأهداف توسيع رقعة الاستيطان. تتكشّف سياسات الكيان الإسرائيلي في إدارة القطاع بالإبقاء على خيار التصعيد العسكري متاحاً، 

ومن ثمّ بقاء حالة الحرب في مقابل تثبيت استراتيجية شاملة تهدف على المدى البعيد إلى فرض أمر واقع جديد في القطاع.

على الصعيد السياسي، يعوق تعطيل إسرائيل للمسار التفاوضي، وتعليقه من وقت إلى آخر تحت مزاعم مختلفة، 

مقابل رفضها تقديم ضمانات لانسحابها عسكرياً من مدن القطاع، فرص إنهاء الحرب، ما يشكّل هدفاً استراتيجياً لإسرائيل، إلى جانب الإبقاء على أزمة الرهائن مبرراً سياسياً لاستئناف عملياتها العسكرية ضدّ حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، 

إذ تحول خيار التفاوض بالنسبة إلى الكيان الإسرائيلي تكتيكاً سياسياً لا أكثر لكسب مزيد من الوقت. 

وفي هذا السياق، فإن تحميل الإدارة الأميركية حركة حماس مسؤولية تعثّر المقترح الأخير لوقف إطلاق النار يمنح الكيان الإسرائيلي ضوءاً أخضرَ لاتخاذ إجراءات تناسب أولوياتها، 

وبمعزل عن وساطات التهدئة، إضافة إلى تمكينه من تقرير مصير قطاع غزّة، وهو ما يعني استمرار الخيار العسكري الذي تعوّل عليه إسرائيل لفرض مشاريعها المستقبلية في القطاع، يضاف إلى ذلك إدارة الملفّ الإنساني لتحقيق ذات الغاية.
 
عسكرياً، تبدو خيارات إسرائيل مفتوحةً على احتمالات عديدة، وإن كان التناقض الجوهري على مستوى تحقيق الأهداف، أي ما بين إعادة ما تبقّى من الرهائن الإسرائيليين الأحياء والهدف الاستراتيجي المتمثّل في القضاء على حركة حماس قد يؤثّر في خططها العسكرية، وفي المدى الزمني لتحقيقها.

 وإذا كان فتح مسارات إنسانية مؤقّتة لإدخال المساعدات الإغاثية إلى قطاع غزّة قد قلّص من حجم الضغوط التي تواجهها إسرائيل من حلفائها، فإنه وفّر للجيش الإسرائيلي فرصةً لتصعيد عملياته العسكرية من دون حساب لعامل الوقت، والأهم لسقوط ضحايا فلسطينيين، 

وفي حين يظلّ تجديد عملية الاجتياح البرّي خياراً محتملاً للجيش الإسرائيلي، فإن تجربة أكثر من عامَين من الحرب لا تعني استنقاع عملياته العسكرية وتكبّده كلفةً بشريةً فقط، بل أيضاً فشله عملياً في اجتثاث مقاتلي حركة حماس، 

ناهيك عن تقويض بنيتها العسكرية، إذ إن سياسة الأرض المحروقة التي تبناها الجيش الإسرائيلي، وإن أنتجت واقعاً عسكرياً ملائماً، أي مساحات جرداء ومدمّرة في شمال القطاع يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، 

وكذلك عزل مدن شمال غزّة عن وسطها وجنوبها، وتقسيم القطاع بين مناطق عسكرية تحت سلطة الجيش، فإن هذه الاستراتيجية لم تؤدّ إلى تأمينها عسكرياً، إلى جانب عزل "حماس"، وشلّ هجماتها، 

إذ تعرّض الجيش الإسرائيلي في الأشهر الماضية إلى كمائن أدّت إلى مقتل جنودٍ منه. 

في المقابل، قد يتبنّى الجيش خيار توسيع عملياته العسكرية في القطاع، وشنّ حرب استنزاف ضدّ مقاتلي "حماس"، إلى جانب حصار المخيّمات التي يعتقد بوجود محتجزين فيها،

 إضافة إلى ضمّ مناطق القطاع بشكل تدريجي وتقليص المناطق الجغرافية التي تسيطر عليها الحركة، فضلاً عن دعم عصابات محلّية، سواءً تحت غطاء تحرير المساعدات الإنسانية من قبضة "حماس" أو للضغط عليها شعبياً.

يأتي صعود جماعة ياسر أبو شباب إلى الواجهة المجتمعية في قطاع غزّة تطوّراً في أدوات الكيان الإسرائيلي لمواجهة نفوذ "حماس"، يعتمد على استراتيجية تفكيك آليات سلطتها السياسية، والأكثر أهمية؛ المجتمعية، عبر خلق ودعم كيانات تنشط في ظلّ حالة الفراغ الأمني الناجم عن تراجع سيطرة "حماس" على قطاع غزّة. 

ومع أن جماعة أبو شباب (أو القوات الشعبية) لا يتعدّى قوامها المئات، إضافة إلى أنها تشكيل عصابي وليست قوةً سياسيةً، ومن ثمّ لا تمتلك فرصة توسيع نفوذها خارج المناطق التي تنشط فيها، 

فإن انتماء زعيمها إلى قبيلة بدوية في أطراف غزّة، أي من خارج البنية الاجتماعية لحركة حماس، يتيح للكيان الإسرائيلي (كالعادة) استثمار التنافسات القبلية والحساسيات المجتمعية مدخلاً للتمكين، وأيضاً للحماية، 

إضافة إلى أن مسرح نشاط جماعة أبو شباب (شرقي رفح)، يخلق تحدّياً سياسياً وأمنياً لحركة حماس، لأن هذه المناطق خارج سلطتها الفعلية، حيث تقع رفح تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، ومن ثمّ تحت حمايته، فيتيح ذلك لجماعة أبو شباب الاستمرار في معارضة حكم "حماس" وتأجيج صراعات مجتمعية ضدّها.
 
من جهة ثانية، دعم عصابة محلّية تنشط في رفح يعني تأسيس نموذج خارج أطر سلطة "حماس"، وعلى الضدّ من أيديولوجيتها المقاومة لإسرائيل،

 إضافة إلى أن المسار الذي تتحرّك به جماعة أبو شباب، بما في ذلك علاقتها مع إسرائيل يتقاطع مع مشاريعها المستقبلية في ترسيم جغرافية القطاع في بؤر مفكّكة ومعزولة جغرافياً وسياسياً، بما في ذلك تغيير البنية الديمغرافية والتوزيع السكّاني،

 كما إن تركيز جماعة أبو شباب في المساعدات الإنسانية سلاحاً في معركتها ضدّ "حماس"، يعضد استراتيجية إسرائيل في إدارة الملفّ الإنساني. 

في المقابل، تتوازى أهمية الخيار العسكري بالنسبة إلى الكيان الإسرائيلي مع إدارة الوضع الإنساني في قطاع غزّة، لأنها جزء من استراتيجية شاملة لتحقيق ذات الغاية. 

وإذا كان استمرار العمليات العسكرية قد حول القطاع أنقاضاً غير صالحة للحياة البشرية، فإن مفاعيل الحصار الاقتصادي والإنساني بإغلاق المعابر، تتعدّى البعد العسكري، بما في ذلك الضغط السياسي على "حماس"، إلى تجذير بيئة إنسانية ومجتمعية طاردة للفلسطينيين، في مقابل تعميم العقاب الجماعي. 

ومن جهة ثانية يمثّل احتكار الملفّ الإنساني بالنسبة إلى إسرائيل، بالسيطرة على تدفّق المساعدات الإغاثية وإدارتها، أداةً فاعلةً لتقليص حضور "حماس" أو (وهو الأكثر أهميةً) لاستمرار حربها ضدّ الفلسطينيين، 

وفي حين نجح الكيان الإسرائيلي في تجريد "حماس" من مسؤولية توزيع المساعدات، وتحويلها متّهماً، إذ سوّقت إسرائيل (بمعية حليفها الأميركي) مزاعم سرقة قياداتها للمساعدات (خلص تقرير أميركي أخيراً إلى نفي هذه المزاعم)، 

فإن عداء إسرائيل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وتقييد عملها الإغاثي في القطاع، ترتّب عليه فرض آلية إنسانية جديدة لإدارة المساعدات، من خلال مؤسّسة غزّة للإغاثة لتحقيق أهداف إسرائيل العسكرية والسياسية، 

ناهيك عن إدارة المساعدات وسيلةً لتغير المعادلة السكّانية في القطاع. 

فبعيداً من الطابع الأمني للمؤسّسة، التي تديرها شركة أمنية أميركية، فإن عسكرتها للمساعدات وانتهاكها لمبدأ حياد العمل الإنساني، بما في ذلك تحوّلها مصائدَ للقتل (قتل ما يقارب من ألف فلسطيني برصاص الجيش الإسرائيلي عند مراكزها) عمّق من فشل المؤسّسة في إدارة المساعدات،

 ما أعاد "أونروا" إلى الواجهة مع انتشار المجاعة في القطاع.
 
ومع ضبابية مستقبل مؤسّسة غزّة للإغاثة، واحتمال استمرارية عملها أم لا، فإن إسرائيل ستظلّ تتمسّك بأحقيتها في إدارة الملفّ الإنساني، وتعني تحويله سلاحاً لتجويع الفلسطينيين وانتهاك كرامتهم الآدمية. 

في النهاية، وأياً كانت الخطوات التي ستتبناها إسرائيل في قادم الأيام، سواء بتصعيد عملياتها العسكرية أو استئناف المسار التفاوضي، فإن ذلك لن يغيّر من مضيّها في تحقيق أجنداتها في القطاع، التي تعني بقاءه مسرحاً جغرافياً لحربها، ومن ثمّ إعاقة فرص تحسين شروط الحياة أمام الفلسطينيين المحاصرين، وتجذير واقع قهري دائم يدفع إلى هجرة من يستطيع إلى بلدان الشتات،

 في مقابل حصر من تبقّى في مخيّمات جغرافية معزولة. ومن جهة ثانية، مراهنة إسرائيل على سياسة الأمر الواقع بضمٍّ تدريجي لمناطق القطاع إلى سلطتها، بما في ذلك عودة خيار استيطان القطاع، 

ومع أن أبواب الجحيم لم تغلق يوماً في غزّة، فإن واقع الفلسطينيين ومستقبلهم بات مرتهناً بيد كيان استيطاني يدير الموت، ويمنع فرص نجاتهم. 

* كاتبة وناشطة يمنية