Logo

سم أبو هِندَه وأصحاب المثلث: من المحجر إلى القصر

 في تاريخ الأمم، ثمة لحظات تتجلى فيها العبثية بأقصى صورها. ليست عبثية الوجود، بل عبثية التاريخ ذاته حين يعيد ترتيب أوراقه بمنطق لا يقبله العقل. 

في هذه اللحظات، يصعد المهمّش فجأة إلى عرش المركز، لا لأنه الأذكى أو الأجدر، بل لأن ساعة القدر المكسورة دارت للوراء، فوضعته في لحظة انفجار. 

في اليمن، لم تكن هذه اللحظة سوى تجسيداً صارخاً لتلك المعادلة العبثية: أن من كانوا يُبَخّرون عند أبواب عدن بمبيد الحشرات، تحوّلوا إلى من يتحكم بمفاتيحها.

 هذه ليست مجرد مفارقة سياسية، بل هي درس فلسفي في التحوّل، في الانتقام، وفي تدهور الوعي.

إن تسمية "المثلث" (يافع، الضالع، ردفان) وربطها بـ"سمّ أبو هندة" لم يكن مجرد وصف جغرافي، بل كان دلالة عميقة على علاقة الهامش بالمركز.

 كان المحجر الصحي في عدن رمزاً لمدينة ترى في الوافدين من الجبال مصدراً للداء، وتستخدم المبيد كأداة لتطهيرهم قسراً. 

لم يكن التطهير جسدياً فقط، بل كان رمزاً لاحتقار اجتماعي وفصل حضاري. 

ومن هنا، انبثقت عقدة تاريخية: عقدة من مدينة رفضت أن تستقبلهم إلا بعد أن "طهّرتهم" قسراً. 

وحين يمتلك صاحب هذه العقدة السلطة، فإنه لا ينسى لحظة الإهانة الأولى، بل يسعى للانتقام. 

ينتقم من المدينة التي احتقرته، ومن الأفراد الذين يمثلون المركز في وعيه، ليحول الرذاذ الذي كان يُستخدم للتطهير إلى رصاص يستخدم للترهيب.

هذه المفارقة لا تكمن في صعود المهمّشين، فالتاريخ مليء بقصص الصعود، بل تكمن في طبيعة هذا الصعود، وفي الأدوات التي استُخدمت، والقيم التي تدهورت.

 لقد صار أصحاب العقدة هم من يوزّعون صكوك الوطنية، ويقررون من هو "أصيل" ومن هو "دخيل"، في مشهد يتجاوز كافكا في عبثيته. 

هذا التحوّل لم يكن صعوداً للذات، بل كان نزولاً للقيمة. صعود يرتكز على منطق القوة لا منطق الحق، وعلى صوت البندقية لا صوت الفكر.

إن المقارنة بين مناطق "المثلث" الصامتة عن الثروات والمدوية بالصراخ، ومناطق أخرى مثل حضرموت وشبوة الصامتة عن الصراخ والغنية بالثروات، تفتح الباب أمام تساؤل فلسفي عميق: 

هل تزداد الثرثرة حين يقل الفكر؟ وهل يرتفع الصوت حين تتضاءل القيمة؟ 

ربما كان الصوت العالي مجرد محاولة لملء فراغ داخلي، أو إخفاء لعجز عن تحقيق الإنجاز. إن من يمتلك الثروة، أي القيمة المادية، يميل إلى التفاوض والصمت، لأنه يمتلك ما يمكن التفاوض عليه.

 أما من يمتلك الفقر، فكل ما يملكه هو صوته، فيرفعه عالياً ليُسمع، وليخلق لنفسه قيمة زائفة.

إنها خاتمة مريرة لقصة تبدأ بالمبيد وتنتهي بالخراب. قصة لا تروي انتصار المهمّش على المركز، بل تروي انتصار العقدة على العقل.

 ويبقى السؤال معلقاً: هل يُعالج التاريخ بالعلاج أم بالانتقام؟ 

وهل يختار الإنسان حين يُمنح السلطة، أن يبني نفسه أم يهدم الآخرين ليظهر أطول؟ 

يا للمفارقة! كانوا يُمنعون من دخول عدن كي يُطهَّروا، واليوم يمنعون الآخرين من دخولها كي ينجسّوها وحدهم.