الهجرة بين وهم التضحية وواقع الاغتراب!!!
قبل أيام التقيتُ بأخ عربي يعمل دكتورًا في جامعة ببلده، لديه عمل جيد ويعيش حالة من استقرار نسبي مقارنةً بكثيرين هناك.
أخبرني عن رغبته في الاستقرار بألمانيا، ولما سألته عن السبب أجاب مباشرة، "من أجل الأطفال ومستقبلهم"؛ أي ليضمن لهم حياة أفضل بعيدًا عن الاضطراب الذي يعيشه عالمنا العربي.
هذه العبارة تتكرر كثيرًا على ألسنة المهاجرين الشرقيين: أن نترك أوطاننا، نضحي بأعمارنا، ونهجر أهلنا وذكرياتنا، وكل ذلك تحت شعار أننا نفعل هذا "من أجل الأبناء".
لكن السؤال الجوهري الذي نغفل عنه هو: هل يطلب الأبناء فعلًا منا أن نضحي بحياتنا وراحتنا وأعمارنا لأجلهم؟ أم أن بوسعهم، كما فعلنا نحن، أن يشقوا طريقهم بأنفسهم، ولو كان مليئًا بالصعاب والتحديات؟
بعد حديثه عدتُ أتأمل في واقع الاغتراب، الذي يختلف جذريًا عمّا يتصوّره المهاجرون الجدد. فالحياة في الغرب لا تسير على إيقاع الأب أو الأم كما في الشرق، خاصة إن كان الوالدان غير مندمجين في المجتمع.
هنا، الأبناء ينشأون في بيئة تحكمها الفردانية وقيم الرأسمالية، فيتشرّبونها ويعيدون تشكيل هوياتهم استنادًا إليها، لا إلى أوطانهم الأصلية.
وهكذا تنشأ فجوة عميقة بين جيل الآباء من الشرق وجيل الأبناء في العالم الجديد تتوارى الروابط الأسرية التقليدية لتحل محلها قيم جديدة مثل "إدارة الوقت"، والسعي وراء "الكارِيَر"، واستفحال مفاهيم "الفردية" و"البراغماتية".
في هذا السياق يصبح عالم الآباء قديمًا غير مناسب وعاطفيًا تقليديًا لا معنى له بالنسبة للأبناء، الذين تحركهم الدوافع العملية مثل المال، الوظيفة، السفر، والمتعة الشخصية، لا البقاء بجوار والديهم وسماع ذكرياتهم وحكايات اوطانهم.
ومع مرور الزمن، ينفصل الأبناء عن التصورات الشرقية التي عاشها آباؤهم، وعلى الوالدين أن يتقبّلوا هذا الواقع، إذ لا قدرة لهم على تغييره.
ومع السنوات، يكتشف الأبوان أنهما لم يعودا مرجعية في قرارات الأبناء برغم أن الاطفال لازالوا في المدرسة، ولا حتى سندًا لهم.
وإذا حصل أحدهم على وظيفة بعد التأهيل أو الجامعة في مدينة أخرى ، فإن مستقبل العمل وحده هو الذي يحدد طبيعة الوقت والفراغ والراحة لتؤثر على العلاقة حتى مع الأب والأم.
وحينها لا يعود كِبَر سن الوالدين أو تضحياتهما أمرًا حاضرًا في حساباتهم، باستثناء بعض المجاملات العابرة. لينتهي الأمر بالوالدين في عزلة وشيخوخة صامتة. وهذا ليس افتراضًا، بل واقع ملموس لحياة طبيعية داخل المجتمع.
فجاري الألماني، وقد تجاوز الخامسة والسبعين من عمره، يقول لي دائمًا "ابنتي بعمرك أيوب وتعيش في نفس المدينة هنا، لكنها لا تفعل سوى أن ترسل لي بطاقة تهنئة في رأس السنة بمعنى انقطاع تام لانه ليس هناك متعة في التواصل او التعامل.
وكذلك ابني على قولته." الجار يعيش وحيدًا، وينتظر أعياده في عزلة قاتلة ودائما اتمنى له صحة ونشاط وافهم المقولة الالمانية "لتعجز اي لتصير كبير سن داخل هذا المجتمع تحتاج شجاعة، ويقصد الامر الخوف من زمن الشيخوخة".
مشهد آخر عشته مع رجل ألماني متقاعد جاء لإصلاح عطل في المبنى عندي صار بيننا علاقة كونه تزامل مع استاذي.
اكتشفت أنه لم يتحدث مع ابنه منذ عشرين عامًا، رغم أنه يعيش في نفس المدينة. وحين نصحته بمحاولة إعادة التواصل، أجاب ببساطة "كل واحد اختار طريقه."
هذه التجارب علمتني أن التضحية العاطفية وحدها لا تكفي، وأن مجرد الاهتمام ليس كافيًا لتبقى مركز ومحرك الأسرة. في مجتمعات الاغتراب، إن لم يكن الأب أو الأم قويًا ماديًا ومعنويًا وفاعلًا في محيطه، فلن يحتفظ بدوره كمحور للعائلة.
وحتى من ينجح في ذلك، يكتشف أن قرب الأبناء مؤقت، وأنهم في النهاية المطاف سيسلكون طريقًا مستقلًا بعيد عنهم. هنا تذكرت في هذا السياق صديقًا مليونير من البلقان جاء لاجئًا إلى ألمانيا قبل ثلاثين عامًا. يعيش اليوم وحيدًا في قصر مطل على النهر.
قلت له مازحًا: "بيتك واسع بما يكفي ليجمع أبناءك وجيرانك واصحابك حولك دائمًا." فابتسم وقال بسياق حديثه "يا أيوب، انسَ الأمر. هنا لا أحد يحتفظ بأطفاله وكل شخص يشكل عالمه بعيد عن الاخر، اي كل واحد يسير في طريقه الخاص الى زمن الشيخوخة القاتلة ."
وبالفعل، رأيت كثيرًا من الألمان والأجانب الذين قضوا سنوات في بناء بيوت ضخمة لتكون رمزًا للأسرة، لكن ما إن يتوفى الأب حتى يسارع الأبناء إلى بيع البيت وتقاسم المال، ثم يمضي كلٌّ في طريقه الخاص الى زمن الشيخوخة القاتلة.
وهنا أذكر رجلًا ظل سنوات يرفض بيع قطعة أرض لي أحببتها، وما إن توفي حتى باعها أبناؤه لي في أيام قليلة، وكأن حلمه ورغباته لم تكن ذات معنى. والخلاصة أدركت أن مجتمع الهجرة يأخذ منك
القليل ويمنحك الكثير. يمنحك الكثير وانت بقوتك وعنفوانك ولكن ماياخذه منك هو اهم استثمار معك جمعته، ويتركك في نهاية حياتك مثل الفقير اليهودي.
ومع دخول سنوات الشيخوخة والعجز التام، يطرح المهاجر على نفسه سؤالًا موجعًا، هل كانت التضحية بالعمر والاغتراب عن الأهل "من أجل الأطفال" صائبة؟
وكيف بك أن اكتشفت، وأنت شيخ وحيد بين أربعة جدران بعد وفاة زوجتك، بعيدًا عن وطنك وبيئتك ولايوجد لا حفيد ولا جار بجانبك، أن وهم التضحية قد سرق عمرك واخذه منك اهم استثمار معك.
والمحظوظ حقًا هو من يحافظ على صحته اكبر وقت ممكن ويتكامل مع وطنه الام، لأن سوف يجد هناك محرك داخله يريده أن يقضي بقية عمره ليس باحثًا عن أبنائه في الغرب – الذين قد لا يجدهم وليس لديهم وقت – بل بجوار قبور آبائه وأهله في موطنه الام.
وخلاصة كلامي هنا أن أعظم مشروع استثماري في حياتك هو بناء الأسرة؛ تستثمر فيها لا لترافقك وأنت في قوتك وعنفوانك، بل لتبقى بجانبك حين تضعف صحتك وتتهيأ لترك هذا العالم بما كنزت. وهذا ما لن تجده غالبًا في الغرب.