Logo

المدرسة والجينوم الحضاري الذي يحدد هوية الأمة!!

 لفت انتباهي في المدارس الغربية مادة التاريخ، فهي ليست سردًا لبطولات مزيفة أو حكايات قومية متحيزة، وإنما تُقدَّم بوصفها أساسًا متينًا لبناء وعي الطالب والطالبة . 

ولهذا السبب تُعتبر مادة أساسية ترافقهم حتى نهاية المرحلة الثانوية في المانيا، إذ تعدّ خزانًا حقيقيًا لما أسميه "الجينوم الحضاري" الذي يحدد هوية الأمة ويمنح أبناءها الأسس التي يقفون عليها. 

أما نحن العرب، وللأسف، فقد أصبحنا في كثير من الأحيان جيل "التيك توك"، وأرى مؤخرًا أن كثرة الانتقادات الموجهة لحضارتنا الإسلامية - اي الأسس الذي يجب أن نقف عليه كأمة- تعكس خللًا تعليميًا عميقًا يعيشه أبناؤنا في مدارسهم.

ومن هذا المنطلق أحاول أن أوضح لأبنائي وبناتي كيف أنظر إلى حضارتنا الإسلامية، خاصة وأنا أعيش في الغرب منذ عقود وأشهد كيف ينظر الآخرون إليها، لا من زاوية التعصب، بل من باب إدراك العوامل الموضوعية التي تشكّل الحضارات. 

فالحضارة، أيًا كانت إسلامية أو أوروبية أو غيرها، هي نتاج تفاعل ثلاثة عناصر الإنسان، والأرض أو الجغرافيا، والزمن. 

ومن خلال هذه العناصر يمكن فهم أي تحول تاريخي بالنظر إلى ما سبق الحدث، وما تلاه، وما تراكم عبر الأجيال. 

أما التفاصيل والجزئيات الصغيرة فهي غالبًا موضع خلاف، لأنها إمّا مشوهة أو باقية بروايات غير دقيقة، ولذلك لا يجوز أن نحاكم التاريخ من خلالها، بل من خلال أثره الكبير المستمر.

إذا عدنا إلى الجزيرة العربية قبل الإسلام فسوف نرى أن الإنسان في تلك البيئة لم يكن يمتلك أثرًا حقيقيًا في التاريخ البشري. 

حياته اليومية كانت قائمة على العصبية القبلية والغزو وقَطع الطرق، والمرأة كانت غالبًا سلعة يمكن أن تُساق جارية في غارة، والرجل العادي لا وزن له إلا بمقدار ما تدعمه عشيرته أو أسرته. 

لم يكن هناك إنتاج فكري أو علمي أو منظومة أخلاقية أو قانونية يمكن أن تستمر قرونًا أو تترك بصمتها في مسيرة الإنسانية. 

المجتمع كان طبقيًا، السيد سيد والعبد عبد، والعلاقات محكومة بالقبيلة لا بالفكرة، والضعفاء بلا كرامة، أما الجغرافيا فلم تكن سوى صحراء قاسية تأكل بعضها بعضًا.

لكن إذا أغمضنا أعيننا على هذا المشهد، ثم فتحناها بعد عشرين سنة من بعثة النبي محمد، فسوف يفاجئنا تغير جذري غير مسبوق. في قلب الصحراء نفسها، وفي نفس البيئة الجغرافية، وُلد عقد اجتماعي جديد لا يقوم على رابطة الدم وإنما على الفكرة. 

أصبح الناس متساوين أمام مبدأ واحد، وصارت الأخوّة أساسًا للعلاقات المجتمعية بدل العصبية القبلية. وُلدت دولة من رحم الفوضى، دستورها الوحي والفكر، وجيشها منظم وقائدها يرسل برسائل إلى أعظم ملوك الأرض وأباطرتها يدعوهم لفكرة جديدة تغيّر وجه التاريخ. 

سواء اعتبرها البعض رسالة ربانية أو رؤية بشرية، يبقى الأثر واحدًا: ثورة غيرت حياة الناس إلى الأبد.

وعندما توفي الرسول محمد لم يورّث الحكم لعشيرته ولا لأبنائه، بل جاء النظام القائم على الشورى وهو ما شكّل قطيعة مع منطق الوراثة والاحتكار القبلي. 

بعد أقل من ستين عامًا فقط أصبحت هذه الدولة قوة عظمى، غيرت الإنسان والأرض والزمن معًا، وامتد سلطانها من الصين شرقًا إلى أوروبا غربًا وعمق إفريقيا جنوبًا، في أقل من قرن. 

لم يكن ذلك مجرد انفجار عابر، بل تحوّل مستمر أنتج حضارة كاملة قادت أممًا، وأرست نظام دولة ورعاية اجتماعية لم تعرفها البشرية من قبل.

ولا شك أنّ هذه الحضارة شهدت أخطاء وأوجه تجاوز، فهي مكوّنة من بشر ككل الحضارات، لكنها ـ بخلاف كثير من غيرها ـ لم تنغلق على نفسها، بل صهرت مختلف الشعوب والثقافات واللغات في بوتقتها. 

جمعت بين الفلسفة الإغريقية، والفكر الفارسي، والحكمة الهندية، وغربلتها جميعًا لتنتج علمًا ومعرفة في قالب عربي-إسلامي صار أساس النهضة الأوروبية لاحقًا. ومن دون هذا الجهد العلمي والمعرفي لما وُجدت أوروبا التي نعرفها اليوم.

فلا نخدع أنفسنا، إذ إن كل ما نتعلمه ونعايشه اليوم في العلوم الحديثة له جذور أساسية في هذه الحضارة؛ فالرياضيات الحديثة تقوم على "الخوارزمية"، والطب الحديث مدين لابن سينا والرازي، والكيمياء امتداد لأعمال جابر بن حيان، والبصريات قائمة على أبحاث ابن الهيثم، والفكر الفلسفي الأوروبي استند لردود ونقاشات ابن رشد، 

والاجتماع الحديث ارتكز على نظريات ابن خلدون، أما الميكانيكا والروبوتات فكان ابن الجزري رائدها وأباها الأول. 

وحين وصل الصليبيون إلى القدس كان الأطباء المسلمون يجرون العمليات بدقة علمية بينما كان العالم الأوروبي يعالج مريضه برُقى وطلاسم لا تمت إلى العلم بصلة. 

وإذا سافرت اليوم إلى إسبانيا فلن تجدهم يميزون تراثهم إلا حين يسوّقونه مرتبطًا بآثارنا في قرطبة وغرناطة وإشبيلية.

هذا كله يعني أن الحضارة الإسلامية، إذا ما قسناها بعناصر الإنسان والأرض والزمن، وبما قدمته في التنظيم السياسي والعدل الاجتماعي والفنون التطبيقية والعمارة والعلم والفلسفة، ليست مجرد ماضٍ يُحكى بل هي حقيقة مطلقة في التاريخ الإنساني، وهي جذر أساسي من جذور النهضة البشرية. 

ولأجل ذلك تُدرّس في مدارس الغرب بكل وضوح، ويُعترف بأن مؤسسها، من منظور التاريخ البشري، هو أعظم شخصية تركت أثرًا ممتدًا إلى يومنا هذا.

فمن يكون إذًا جيل اليوم، جيل "التيك توك"، ليحاكم حضارة عظيمة بهذا الحجم؟ أي منطق يجيز لمجتمع غارق في الاستهلاك واللهو أن يسخر من أمة أنجزت وأخطأت لكنها بنت تاريخًا خالدًا؟

 وإذا تخيلنا أن أجدادنا عادوا بيننا اليوم لقالوا لنا بألم: خلفنا لكم أوطانًا واسعة، ودساتير شاملة، وعلومًا متقدمة، ونظمًا اجتماعية متينة، وأنتم ماذا صنعتم؟

 ماذا أضفتم على صعيد الفكر أو العلم أو الصناعة؟ ألستم مجرد مستهلكين للطعام والشراب والغناء والرقص والتسلية الرخيصة؟ 

خلفنا لكم قوة وعزة، وضيعتموها بأيديكم. علمناكم كيف تسودون العالم بالعدل والعلم، وإذا بكم اليوم أضعف الأمم لا تملكون خبز يومكم ولا قدرات تستقلون بها عن غيركم. 

لقد كان من المفترض أن تتعلموا من تجارب الشعوب الأخرى، وأن تقاتلوا الجهل والأمية والخرافة، بدل أن تنشغلوا بتفاهات الانتقاد الرخيص للحضارة الإسلامية كمن يلوم أمه لأنها أنجبته.

أجدادكم لو رأوكم اليوم لقالوا لكم بلا تردد: أنتم عار زمانكم، بينما كنا نحن في زماننا قادة الإنسانية وأصحاب الصدارة علمًا وقوة وتأثيرًا. أصبنا وخطأنا كغيرنا، لكننا لم نكن قومًا تافهين عديمي الأثر كما أنتم. 

وإنه من الظلم أن تحاكموا تاريخنا بمقاييس عصركم، خاصة وأنكم أنتم أنفسكم جيل الهزائم والمهزومين. خلفنا لكم علومًا هائلة وآثارًا باقية،

 بينما أنتم تبحثون ليل نهار عن حجج لتسخروا ولتثرثروا بلا طائل عبر تطبيقات التواصل، وأنتم غير قادرين حتى على فتح ورشة عمل أو بناء مشروع اقتصادي صغير يحمل مقامكم.

إن النقد لا يكون لإهانة الماضي بل لإصلاح الحاضر، والعدل يقتضي أن ننظر إلى الأمور بإنصاف. انظروا إلى الشعوب الأخرى: 

اليابان نهضت وتقدمت وهي لا تزال متمسكة بديانتها الشنتوية والبوذية معًا، والهند والصين لم يهدموا جذورهم ولا تراثهم، بل بنوا عليه حضارة حديثة. 

لماذا نحن فقط نتصالح مع الجهل ونحارب تراثنا؟ هل لأننا نفتقد الثقة بأنفسنا؟ هل لأننا لم نملك الشجاعة التي امتلكها أجدادنا في البناء والإبداع؟

إن المشكلة اليوم فينا نحن، في ضعفنا وتشرذمنا، في تحولنا إلى فقراء متناحرين داخل بيت واحد غارق بالجهل والاستبداد. 

المطلوب ليس نبش الماضي بتفاهة ولا تقليد الغرب بتبعية عمياء، وإنما المطلوب أن ننهض بالعلم، وأن نصلح أنفسنا بأنفسنا خطوة خطوة، وأن نأخذ من الغرب أفضل ما عنده دون أن نتحول إلى نسخة ممسوخة منه. 

نحن نعيش في عالم تدار فيه الأوطان والثروات كالسلع في البورصات، وعالمنا العربي والإسلامي الضعيف صار سلعة يباع ويشترى، بينما نحن نهتف ونصفّق وننشغل بجدالات الماضي الذي لم يعد يشغل أحدًا. 

فإذا أردنا الخلاص فلا سبيل إلا بمعركة مع الجهل والتجهيل في حاضرنا، وبنظرة عادلة منصفة لماضينا. وحينها فقط نستطيع أن نكون جديرين بحمل ميراث حضارتنا التي غيّرت وجه البشرية وستظل شاهدًا على أن أبناء هذه الأمة كانوا يومًا في المقدمة.