Logo

مأزق اليمن: بين عقلانية فيبر وواقع القبيلة

 يطل المفكر الألماني ماكس فيبر من نافذة القرن العشرين ليجد في اليمن حقلًا خصبًا لتحليل أفكاره حول العقلانية والبيروقراطية. 

لقد كان فيبر يرى أن تقدم المجتمعات يكمن في تحولها من الهياكل التقليدية إلى الأنظمة العقلانية الحديثة، حيث تسود الكفاءة والمؤسسات على حساب الولاءات الشخصية والقرابة.

 لكن الواقع اليمني يقف كشاهد على الصراع المرير بين العقلانية البيروقراطية التي لم تكتمل والبنية القبلية التي ما زالت راسخة.

في فلسفة فيبر، تُعدّ العقلانية المحرك الأساسي للتاريخ، وهي تعني سيادة المنطق، والعمل المؤسسي، والقوانين المكتوبة بدلاً من الأعراف والتقاليد الشفوية.

 ولكن في اليمن، ظلت هذه العقلانية مجرد فكرة لم تُترجم بشكل كامل إلى واقع، 

فقد اصطدمت الدولة التي حاولت بناء نفسها على أسس حديثة بصلابة البنية القبلية التي تفرض ولاءات مُغايرة. لقد أدى هذا التداخل إلى نشوء ما يمكن تسميته بـ"البيروقراطية القبلية"، 

حيث تُستخدم المؤسسات الرسمية لخدمة المصالح القبلية والشخصية، لا لخدمة المصلحة العامة. 

فالمحسوبية والواسطة لم تصبحا مجرد فساد، بل هي نتاج منطقي لسيطرة الولاء القبلي على مبدأ الكفاءة، وبدلاً من أن تكون الوظيفة العامة وسيلة لتقديم خدمة، أصبحت وسيلة لتقديم خدمة لأبناء القبيلة أو الفئة المُقربة. 

هذا التداخل الفاسد بين الولاءات التقليدية والمؤسسات الحديثة هو أحد الأخطاء الجوهرية التي منعت قيام دولة حقيقية.

إن المأساة تكمن في أن القبيلة، التي كانت في الماضي نظامًا اجتماعيًا مُتماسكًا لضبط الحياة، أصبحت اليوم عائقًا أمام بناء الدولة، فقد ظلت الهياكل التقليدية أقوى من الهياكل الرسمية. 

ففي أوقات الأزمات، يلجأ المواطن اليمني إلى شيخ القبيلة أو إلى عُرف القبيلة لحل مشكلته، بدلاً من اللجوء إلى القاضي أو الشرطة، وهذا يعكس عدم ثقة عميقة في المؤسسات الرسمية، وثقة أكبر في آليات تقليدية. 

هذا الصراع بين الولاء للقبيلة والولاء للدولة هو ما أفرز الأخطاء الكبرى، 

فعندما تُدار السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية بمنطق القبيلة، يغيب منطق المصلحة الوطنية الشاملة، وتصبح القرارات لا تهدف إلى تحقيق تنمية مستدامة أو عدالة اجتماعية، بل إلى تعزيز نفوذ قبيلة معينة أو عائلة معينة على حساب بقية المجتمع.

إن الأخطاء التي جعلت اليمن يصل إلى ما هو عليه اليوم ليست مجرد أخطاء سياسية أو اقتصادية، بل هي أخطاء فلسفية في الأساس،

 وهي ناتجة عن فشل المجتمع في تحقيق النقلة النوعية من المجتمع التقليدي إلى المجتمع العقلاني الحديث. 

إن الحل لا يكمن فقط في تغيير الحكام، بل في تغيير المنطق الذي تُدار به الحياة.

 يجب أن تُبنى الدولة على أساس الكفاءة والمؤسسات وسيادة القانون، لا على أساس الولاءات القبلية أو المناطقية. 

فبدون هذه الثورة الفكرية، سيبقى اليمن مُحاصرًا بين سطوة الماضي وحلم المستقبل، ولن يتمكن من الخروج من هذا المأزق التاريخي.