Logo

أريد أن أنتحر… الحياة بلا معنى!

 مرة أرسل لي أحدهم يقول: أريد أن أنتحر، لا معنى للحياة، ولا للوجود، لا معنى لشيء على الإطلاق، لا إله، ولا نبي، ولا دين، ولا قيم، ولا مبادئ ولا أخلاق.
كان حواراً طويلاً، كشف الهوة الكبيرة التي يتساقط فيها يومياً كثيرون ممن وصلوا إلى قناعة بأنه لم يعد للحياة أي معنى، وأن الوجود عدمي، وأن العالم تحكمه الفوضى، وأن الأديان تدخل ضمن تصنيف المخدرات الأكثر فتكاً بالبشرية، 
الأمر الذي دفع كثيرين للإلحاد، ومن ثم الانتحار، ليس بحثاً عن إجابات لدى الموت، ولكن تخلصاً من الأسئلة في الحياة، وذلك بعد سيطرة فلسفات حصرت (الألوهية والإنسانية) في بعد مادي واحد،
 أدى إلى إلغاء الإله لصالح الإنسان، ومن ثم إلغاء الإنسان لصالح السوق، إلى أن وصلنا إلى حشر معنى المعاني وغاية الغايات في «فترينات» المحلات التجارية، وأعمدة ناطحات السحاب، ويافطات مكدونالدز، وواجهات شركات التكنولوجيا العملاقة، دون أن نجد المعنى هناك، الأمر الذي دفع صديقة رحلت قبل سنوات إلى أن تكتب – قبيل دخولها بوابة الموت – كلمات مظلمة يائسة،
 تقول: «وداعاً، إنها النهاية»، ثم مضت إلى موت قاسٍ قسوة حياتها التي كانت تظن أنها بلا معنى.
وعلى ذكر النهاية، فإن الموت يأتي باعثاً قوياً للإنسان للبحث عن معنى الحياة. الإنسان يشعر بالنهاية، الحياة لا تستمر، والموت هو المصير، أو على حد وصف مارتن هايدجر أن «البشر هم الكائنات الوحيدة التي تحيا أبدًا في ظل الموت»، ولأنهم كذلك فإنهم دائماً يتساءلون: ما الهدف؟ ما الغاية؟ ما معنى وجودنا، إذا كنا غداً راحلين؟
 وما معنى أن نستمر إذا كنا لا نعلم من أين جئنا، ولا إلى أين نذهب؟ ثم يذهبون للموت، لا حباً فيه، بل تخلصاً من الحياة.
وفي محاولاتها إيجاد حل لمعضلة المعنى في حياة الإنسان، جاءت الفلسفات المادية، لتقدم للإنسان إجاباتها، بعد أن زعزعت القناعات الروحية، ومحت الأبعاد الماورائية للإنسان والوجود، جاءت لتنقذ الإنسان من حريق الأسئلة، لكنها ألقته في جحيم الإجابات المتضاربة،
 وحاولت إخراجه من «سجن روحه»، لكنها حشرته في «خريطة جسده»، بعد أن حولت معارفه وفنونه وآدابه، وأحاسيسه ومشاعره، وقيمه وأخلاقه وعلاقاته إلى مقادير وأحجام، وأسبغت الصبغة المادية على كامل وجوده الإنساني، وأفرغته من المعنى، واجتزأته من السياق، وعزلته عن فضائه القيمي، وانتهت إلى كونه مجرد شيء، ضمن أشياء لا تحصى في هذا الوجود.
واستمرت الفلسفات المادية في «تشييء الإنسان»، بعد أن ضغطت مشاعره في «قنينة اختبار»، وأخرجت تلك المشاعر عن السياقات الروحية، لتدخلها في مشرحة بيولوجية، ومختبر كيميائي، حتى غدت المشاعر مجرد «تجربة» معملية حبيسة القنينات والأنابيب والغرائز والرغبات.
 ومع محاولات «تشييء الإنسان» زادت محنته، حيث لم تستطع الفلسفة المادية إسعاف العطش الداخلي لديه، ولم تملأ فراغه الكبير الذي يبدو أكثر اتساعاً من أبعاده الفيزيائية، 
فانطلق هذا الإنسان يبحث عن الماء في مزيد من العطش، وينشد الجنة في الجحيم، ويطلب السكينة في الفوضى، ويبحث عن المعنى في ركام الشكوك.
خرج الإنسان – إذن – يبحث عن المعنى الذي فقده مع استمرار تحويله إلى شيء، إلى سلعة، إلى بازار غرائزي كبير، 
ومن هنا عادت الأسئلة الكبرى تلح على هذا الإنسان الذي ظن أن الفلسفة المادية هي العلاج لقلقه الذي يعيشه، بسبب إحساسه بأن وجوده مجرد طفرة بيولوجي، أو صدفة عابرة، دفعته للبحث عن «المعنى الأبدي»، 
دون أن يدرك أن بحثه عن الأبدية هو دليل استمرارية الحياة بعد الموت، وأن فشل النظريات المادية في الوصول إلى المعنى الحقيقي يؤكد أن المعنى فوق المادة، وأن كون الحياة لا تقدم إلا نصف الإجابة يعني أن الموت يقدم النصف الآخر، 
وأن القول بأنه لا معنى للحياة لا يعني أنه بالفعل لا يوجد معنى لها، ولكن يعني أن وسائل تلقينا للمعنى أصبحت مشوشة، لدرجة فقدانها حساسيتها في التلقي، تماماً، كما ينكر الأعمى وجود النور، لمجرد أنه فقد حاسة البصر.
ولم تكتف الحداثة المادية بهدم معنى الحياة الروحية بالنسبة للإنسان، بل لقد انتقلت إلى الحياة اللغوية، حيث قالت «التفكيكية» بنفي المعنى، فلا معنى للنص إلا بهدمه وتفكيكه، لأن المعنى موجود في التفكيك لا البناء،
 وهو معنى سائب، سائل، هلامي، لدرجة أنه لا يكاد يكون هنالك معنى في النص، بما أن وظيفة النص ليست إيصال المعنى، بل «إحداث الأثر».
وهكذا في منطق عدمي، وبعد هدم معنى الحياة، يراد هدم اللغة ومنطقها ومعناها، ليظل النص كتلة من الرموز المبهمة، لا تفهم إلا بتشريح لحم الكلمات الميتة موت الإنسان الذي يبحث في ركام الكلمات والأشياء عن معنى وجوده، 
ثم لا يخرج إلا بالشك الذي ملأته به الفلسفات المادية، لتحيله إلى حياة من القلق والشك المرضيين، أُطلق عليهما – زوراً – القلق الوجودي، والشك الإيجابي.
وسيظل الإنسان المعاصر ضحية الفلسفات المادية إلى أن يفهم أن المعنى أبعد ما يكون عن بريق الألفاظ وصلصال الجسد، وأنه في الروح، وهي الحقيقة التي انتهى إليها كثيرون، قبل وصولهم لحظة الرحيل، 
في حين لم يصل آخرون إلى معنى حياتهم إلا في اليوم الأخير لها، وحينها كان الوقت – للأسف – قد فات، وهي الحالة التي عبرت عنها آية عظيمة الدلالة في القرآن الكريم تصف لحظة الموت: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد».
وهنا يبرز الجواب الديني في مقابل الإجابات المادية لسؤال المعنى، ففي حين فتحت الفلسفات المادية للإنسان المزيد من الأسئلة التي لا إجابة لها، ما جعل كثيرين ممن لا يملكون أدوات التفكير يسقطون في منتصف الطريق، لا يزال الإيمان الديني – رغم الهجوم المستمر عليه – يقدم أكثر الإجابات منطقية، وأجداها نفعاً للإنسان، وأكثرها جلباً للانسجام بين متناقضات الحياة الكثيرة.
وهنا يبدو الجواب الديني لأسئلة المعنى قريباً إلى القلب والعقل، لأنه جواب يقوم على أساس أن: «من عرف من أين جاء عرف إلى أين يذهب»؟ 
حيث نأتي جميعاً من الله، وإليه جميعاً نعود، وقد جئنا لهدف، وسنعود لغاية، وهذا ما يجعل الكثيرين يلقون لحظة الموت برضى، مؤمنين بأن الموت مجرد محطة من محطات حياة الإنسان الخالدة، ومرقى من مراقي صعوده الروحي نحو الإله العظيم الذي جاء الإنسان منه ويعود إليه، 
وهو شعور يبعث على الرضى والمضي في الحياة بسلام إلى آخر لحظة فيها، لحظة الموت التي تشير إليها الآية: «يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي». صدق الله العظيم.