المجلس الرئاسي اليمني... آليات المناورة والتعطيل
تعيد أزمة المجلس الرئاسي في اليمن طرح مقولات التوافق السياسي والشراكة موضوعاتٍ للبحث ومدى قابلية تحقّقها في الأرض، بما في ذلك استعمالات السلطة ومرجعياتها أداتين للتعطيل السياسي.
ومع أن الوساطة السعودية أخيراً قد خفّضت التوتّرات في سلطة المجلس الرئاسي، فإنها لا تُعدّ آليةً ناجحةً لتحجيم تنافسات الفرقاء، ناهيك عن تثبيت سلطة مستقرّة تقوم بوظائفها الطبيعية حيال المواطنين.
لم تكن الإجراءات الأحادية التي اتخذها رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، وعضو المجلس الرئاسي عيدروس الزبيدي، التي قضت بتعيين عدد من أنصاره في السلطات المحلية ومؤسّسات الدولة سوى المظهر الأخير لمستويات الصراعات العميقة في السلطة التوافقية، وهياكلها المختلفة،
وإن اتّخذت المظهر التقليدي المتمثّل في التنازع على الصلاحيات بين نواب رئيس المجلس وبين الرئيس. وفي حين صعدّت الإجراءات الأحادية من مخاطر انهيار الصيغة التوافقية لسلطة الوكلاء،
والأكثر أهميةً تقويض مسار الإصلاح الاقتصادي الذي دشّنته الحكومة المعترف بها دولياً، فإن تدخّلات الحلفاء، وبالأخص السعودية، أجبرت الفرقاء على التهدئة، وذلك بقبولهم (تحت الترضيات أو الضغط) تجميد الإجراءات المتبادلة،
ومراجعة القرارات كافّة التي صدرت عن المجلس الرئاسي منذ تشكيله، سواء التي أصدرها الرئيس، أو قرارات نائبه أخيراً، وإحالتها إلى اللجنة القانونية لتقييمها خلال تسعين يوماً.
وبعيداً من نتائج اللجنة، فإن مرجعيات السلطة التوافقية، بما في ذلك هيئاتها، تظلّ الأرضيةَ التي تكرّس حالة الصراع وتديمها، والأهم استخدامها مساحةً للمناورة والضغط بهدف إعادة موضعة النفوذ.
سياسياً، أفضى مرسوم نقل السلطة إلى المجلس الرئاسي (إبريل/ نيسان 2022) إلى فرض إطار عام لتمثيل الفرقاء في هيكل السلطة التوافقية ومؤسّساتها المختلفة، بالاعتماد على حلفائهم الإقليميين ضامنين للتطبيق.
ومع أن هذا الإطار افتقر إلى آلية محدّدة تضبط التمثيل ونسبته في المستويات الوسطى والدنيا من السلطة، فإن استمرار رفض الفرقاء استكمال هيئات السلطة التوافقية،
والأكثر أهمية الاتفاق حول آلية قانونية تحدّد الصلاحيات، سواء بين رئيس المجلس الرئاسي ونوابه أو بين مؤسّسات السلطة العليا والمحلية، مكّن القوى السياسية المختلفة من استثمار هذا التداخل والاختلال لتقويض السلطة، وفرض أمر واقع، بتكريس نفوذها.
كما أن طغيان المؤسّسة الرئاسية وشخصنتها من خلال سلطة رئيس المجلس، وتحوّلها مركزَ قوىً مستقلاً أدّى إلى تقييد السلطة التنفيذية، أي الحكومة،
وأيضاً منازعة صلاحياتها من الرئيس ونوابه مراكزَ قوىً متنافسة، في مقابل مأسسة نواب الرئيس سلطاتهم بالاعتماد على ثقل القوى التي ينتمون إليها، فتحوّلت أداةً للتعطيل والابتزاز السياسي.
ومن جهة ثانية، فإن تعارض مشاريع الفرقاء، سواء على مستوى نموذج الدولة أو المرجعيات الوطنية، قوّض إمكانية تأسيس إجماع توافقي (في حدّه الأدنى) لإدارة الدولة في المناطق المحرّرة.
يضاف إلى ذلك فشل المجلس الرئاسي في دمج التكوينات العسكرية والأمنية تحت سلطة موحّدة، بحسب مرسوم نقل السلطة، وهو ما مكّن القوى، بما في ذلك "الانتقالي الجنوبي"، من إعاقة دمج قواتها العسكرية وأحزمتها الأمنية في مؤسّسة عسكرية واحدة، في مقابل التمسّك بتنفيذ الشقّ السياسي، أي توسيع المحاصصة.
وبموازاة هذا التجريف البنيوي لهياكل السلطة التوافقية ومرجعياتها، يجري تدعيم الانقلاب على الشراكة باستدعاء مرجعيات قديمة لشرعنته سياسياً.
ففي حالة "الانتقالي"، يُوظَّف اتفاق الرياض 2019 إحالةً تجيز له فرض تعيينات في مؤسّسات الدولة وسلطاتها، وبالقوة. ومع أن مرسوم نقل السلطة المفترض أن يكون المرجعية الوحيدة التي تنظّم الشراكة بين الفرقاء،
وبالتالي تجبّ اتفاق الرياض الذي صُمِّم من المتدخّلين لاحتواء الصراع العسكري بين "الانتقالي" والشرعية حينها، إلا أن الانتقالي يتمسّك بهذا الإطار مرجعيةً رئيسةً لفرض شروطه على شركائه.
ربّما من الجدير هنا تقصّي الثيمات الرئيسة التي يجري استدعاؤها وتوظيفها من الفرقاء اليمنيين، والحاضرة في صلب المرجعيات السياسية تاريخياً، من مرسوم السلطة التوافقية إلى بنود الوساطة السعودية أخيراً، التي تتحدّد بمصطلحي "التوافق"، و"الشراكة"، وربطهما في صيرورة غائية يقتضي أحدهما معها وجوب الآخر.
بيد أن مضامين هذين المصطلحَين، ناهيك عن استخداماتهما في النموذج اليمني، تخلق قطيعةً عمديةً مع أيّ مستوىً للتوافق بين الفرقاء، حتى إن كان مرحلياً، أو في حالة المجلس الرئاسي "تلفيقياً"،
إذ لم ينتج منه مشترك سياسي قيمي، بما في ذلك تطبيع العلاقات السياسية البينية، بل يكرّس الشرذمة السياسية من خلال تشظية السلطة التوافقية في مستوياتها كافّة، وتحويلها سلطاتٍ موازية ومتصارعة، وذلك بالمراهنة على القسر السياسي والعسكري، وطبيعة النفوذ وثقله ودعم المتدخّلين،
ومن ثمّ يصبح مفهوم التوافق السياسي بالنسبة إلى القوى المنضوية في المجلس الرئاسي إكراهاً وإخضاعاً للشركاء، مسنوداً في حالة "الانتقالي الجنوبي" إلى ثقله قوىً جنوبيةً منضويةً في السلطة التوافقية وقادراً على تعطيلها، إلى جانب توظيف مركز نفوذه الجغرافي، أي تمركزه السياسي في مدينة عدن عاصمةً مؤقّتةً لسلطة المجلس الرئاسي، لممارسة أكبر قدر من الضغط على شركائه.
وبموازاة ذلك، يتّخذ مفهوم الشراكة معطىً اجتزائياً يتبلور في سياسة أحادية تفرض طبيعة السلطة واستخداماتها. ففي مقابل الالتفاف على تطبيقات الشراكة باعتبارها إجراءات مؤقتة فرضتها حالة الصراع على السلطة،
وتقتضي على الأقلّ ربط التعيينات بالكفاءة، تُوسّع استعمالاتها من أداة للتعطيل إلى مظلّة لتفتيت الدولة، وتكريس سلطات مناطقية وسياسية. ففي حالة "الانتقالي الجنوبي"، يتحدّد مفهوم الشراكة في بعد أحادي يطيح بمبادئ قبول تمثيل الآخر السياسي، التي لا تعني فقط رفض أي تعيين في السلطات المختلفة من المنحدرين من المناطق الشمالية،
بل حصر مفهوم الشراكة ببُعدٍ مناطقي يتأسّس أولاً على دائرة الانتماء المناطقي، تعني تمثيلاً جنوبياً في هياكل السلطة المختلفة،
في مقابل احتكار تمثيل المناطق الجنوبية للانتقالي، ومستوىً آخرَ هو حصر الشراكة في تمثيل سياسي أكثر اختزالاً، بتحديد فئوي يتمثّل بالمنتمين إلى دائرته الجغرافية الضيّقة، أي التركيبة الاجتماعية لسلطة الانتقالي، ثمّ تليها القوى المتحالفة معها.
ومع أن تشرذم هياكل السلطة التوافقية، تبعاً لتوزيع ثقل القوى سياسياً، ومن ثمّ جغرافياً، فرض تجزئةَ السلطة، فإن الاتجاه المناطقي والمغلق المسنود بتهويمات الهُويَّة الجغرافية، من دون فلسفة أو أيديولوجيا محدّدة، في حالة الانتقالي، يعوق إمكانية تحقيق تراكم يبلور سلطةً توافقية، أو شكلاً للدولة، فيما يُعزّز من دفع المتنافسين إلى التمترس لتثبيت نفوذهم.
في المحصلة، إن قوىً متعدّدةً ومتناقضةً سياسياً، يعني تجذيراً لحالة الصراع البيني، أيّاً كانت صيغة السلطة، هو ما أكّدته الأزمة أخيراً في المجلس الرئاسي، وذلك بتوظيف مرسوم نقل السلطة لصالح القوى الأكثر قدرةً على الضغط والتعطيل، ومن ثمّ فشلها، في أن تكون صيغةً توافقيةً ملزمةً للفرقاء لاحترام التوافق والشراكة السياسية،
وفي السياق ذاته، ومع أهمية الوساطة السعودية في خفض التوترات البينية، وتأكيد أهمية الدور المفصلي للمتدخّلين في إدارة سلطة وكلائهم، فإنّها قلصت إمكانية حلّ الخلافات في إطار يمني – يمني.
ومن جهة أخرى، ومع تحديد الوساطة للجنة القانونية التابعة لسلطة المجلس لحلّ الخلافات، فإن الآلية السعودية أضافت مستوىً آخر من التعقيد، وربّما من الأزمة،
فإضافةً إلى إضعاف سلطة الرئيس بإعادة تقييم القرارات التي أصدرها، ووضع مشروعيته رئيساً توافقياً في دائرة الشكّ، فإنها ساوت بين شرعيته وشرعية نوابه.
في المقابل، فإن الوساطة السعودية وإن عزّزت من سلطة الانتقالي في الوقت الحالي، فإنها حصرت تموضعه السياسي في معادلة إدارة التمثيل السياسي، ومن ثمّ تعطيل مشروعه الانفصال إلى أجل غير مسمّى.
* كاتبة وناشطة يمنية