Logo

الإنسان/الإله… بين الكهنوت الديني والكهنوت الحداثي

 حكاية الإنسان فريدة بين حكايات المخلوقات الأخرى، حكاية مليئة بالتقلبات والاندفاع والتناقضات المختلفة. يريد أحياناً أن يتبع وصايا وتعاليم الإله، وأحياناً أخرى يريد أن يكون هو الإله صاحب الوصايا والتعاليم، سعى للسلطة والثروة باسم الإله، ثم سعى للسلطة والثروة بتأليه نفسه، عبد الإله فترة، ثم ارتد محاولاً نزع الإله عن عرشه.

عندما يشعر بالضعف يركن إلى قوة الله، ويرى نفسه مجرد «عبد» ذليل لخالقه، وعندما يشعر بالقوة يرى أن وجود الإله يحد من حريته، ويفهم حريته على أساس أنها الانفلات من القيم والأخلاق والتعاليم والوصايا الموروثة، وهو في سعيه للحرية يريد استعباد الآخرين،

 وفي تفلته من تعاليم الإله يريد أن يكون هو الإله، والمشكلة أن الإنسان الذي يريد اليوم أن يكون إلهاً، هذا الإنسان كثير جداً، ما يعني أنه سيكون لدينا عدد مهول من الآلهة المتصارعة، أشبه بما نقرؤه في الأساطير القديمة.

واليوم يستمر سعي الإنسان للتخلص من «الإله الواحد»، والاحتفاء بـ«الإنسان الفرد»، في تكريس لما بدأه تشارلز داروين بإسقاط الحواجز بين الإنسان والحيوان،

 ثم اختصار الإنسان في غرائزه، وحبسه في جسده، بعد أن أصبح الجسد إلهاً، والغريزة ديناً، إلى أن جاء فريدريك نيتشه فتوج الإنسان الدارويني إلها، لتستمر عمليات التجريف الرهيبة التي مهدت لانتشار الأفكار و«الفلسفات المادية»، بمحتواها البعيد عن الروح.

وإذا كانت نتائج تلك الفلسفات تمثل ثورة على «الإله المصلوب» أو «الإله القتيل»، أو الكهنوت الديني، أو تمرداً على تحالف الملك والقسيس،

 وإذا كانت تلك النتائج قد حققت الكثير من أهدافها في التخلص من «الترهلات الدينية» في أوروبا، فإن أثرها على الروح كان مدمراً، إلى الدرجة التي ألغت الوجود الروحي تماماً، وحصرت الإنسان في جسده، 

قبل أن ينتهى الأمر بنبي الإلحاد ديفيد دوكنز، ليقول إن الإله مجرد وهم اخترعه الإنسان لأسباب متعددة، وأن ما تتحدث عنه الأديان من روح ما هو إلا نتاج مجموعة تفاعلات كيميائية، وحتميات بيولوجية، داخل جسد الإنسان، تنتج مشاعره، وتبدع قصائده ولوحاته وألحانه، 

وتشكل القيم والأخلاق التي تم فصلها عن محتوياتها الروحية، في تجريف لروح الإنسان من خلال أفكار كثيرة أطلقت «الحيوان الكامن» في الإنسان، و«حررته» من قيوده الأخلاقية، فانطلق وحشاً ضارياً يفعل كل ما يروق له.

انطلق هذا الإنسان/الإله من أوروبا غازياً شعوباً كثيرة، ومدمراً حضارات عريقة، جالباً الذهب، وناهباً الثروات من أمريكا والهند والصين والشرق الأوسط وأفريقيا، تحت عناوين مختلفة مثل «الاستعمار والانتداب والوصاية والتحضر والتمدين»،

 حتى وصلنا إلى الحربين العالميتين وما بعدهما، وليس انتهاء بما يجري في غزة من «تطهير عرقي» و«إبادة جماعية»، تحت سمع وبصر القوى ذاتها التي تقدس الحرية التي اتضح أنها تقصد بها حريتها في أن تفعل كل ما من شأنه أن يملأ بطونها المسعورة من دماء وأشلاء ودموع.
 
الواقع أنه بعد قرون من إزالة «الكهنوت الديني» في أوروبا، وصلنا إلى نتيجة أبشع من نتائج تحكم ذلك الكهنوت، ووجد الإنسان نفسه أكثر توحشاً، بعد تخلصه من «الإله»، 

وأما الفلاسفة الذين قضوا أعمارهم في محاربة «سلطة الكنيسة» فقد أصبحت أفكارهم منطلقاً لكثير من الحروب الكبرى التي كانت نتيجة لتركيز هؤلاء الفلاسفة على الإنسان وحريته، والجسد وقداسته، إلى أن وصلنا إلى الرأسمالية الجشعة، والاستعمار الذي لا يشبع، وخلَّفتْ الدعوات للتخلص من القيود الدينية والتحرر من «عقيدة الإله»،

 خلفت تلك الدعوات نتائج كارثية، لا يمكن مقارنتها بنتائج عصور الكهنوت الديني، دون أن يعني ذلك براءة تلك العصور من الظلم والاضطهاد والجرائم في حق الإنسان.

أما اليوم فقد تسارع الزمن الذي كان يمشي بطيئاً من الداروينية إلى النيتشوية فالنازية والفاشية والرأسمالية والعولمة، وكلها فلسفات ذات محتوى أسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في مأساة الإنسان المعاصر الذي ذهب يبحث عن السعادة في الانفلات من قيود «الإله الكنسي»، ليقع ضحية «الإله البشري» الذي انطلق مدمراً كل شي، دون أن يلوي على شيء.

هل كانت الفلسفات المختلفة التي تطورت عنها توجهات فجرت الحروب العالمية، هل كانت هذه الفلسفات شراً محضاً؟ بالطبع لا، ولكنها مسؤولة عن هدم عالم من الرؤى والأفكار بطريقة أدت إلى سطوة عالم آخر من رؤى وأفكار أكثر توحشاً وإجراما.

ثم، هل كان تاريخ الإنسان على هذا القدر من السوداوية والتشاؤم؟ بالطبع لا، غير أن التاريخ السياسي على الأقل لم يكن تاريخاً مشرقاً، وهذا التاريخ هو المجرى الذي تصب فيه وتؤثر عليه روافد التواريخ المختلفة للأمم والشعوب، وهو الذي يقطف ثمار المنتج البشري في المجالات الإنتاجية والإبداعية المختلفة، وهو تاريخ من المصالح المتضاربة التي توظف المنتج البشري لصالح أقليات نخبوية، بالمعنى السلطوي للنخبة.

ومع تسلط النخبة تحول الناس من شعوب وأمم متنوعة إلى قطيع واحد توجهه اليوم أحدث منتجات التكنولوجيا، وتصوغ قيمه وأفكاره مجاميع من «الفارغين» أتاحت لهم التكنولوجيا تلطيخ الذوق العام، وتشويه صفاء الروح، 

بعد أن مكنتهم «السوشيال ميديا» من اكتساب «شعبوية» متضخمة، وصلوا بها إلى مواقع القرار، وأرادوا من خلالها التحكم بمصير العالم، بعد أن أصبحوا خلطة هجينة من أفكار كهنوتية على مستوى المضامين، ومنتجات تكنولوجية على مستوى الوسائل والأدوات، وهي خلطة «رجعية المحتوى»، وحداثية الشكل»، 

تبرز أوضح صورها في شخصية رجل مشوه اسمه بنيامين نتنياهو يندد بهولوكوست ألمانيا النازية ضد اليهود، فيما هو يؤدي دور أدولف هتلر في هولوكوست «إسرائيل الصهيونية» ضد الفلسطينيين.

أخيراً: البشرية التي عانت أمس من «الكهنوت الديني» تعاني اليوم أضعافاً مضاعفة من «الكهنوت الحداثي»، وإذا كان «التسلط باسم الإله» قد أوصل الإنسان إلى الكفر بالأديان،

 فإن «التسلط باسم الإنسان» سيؤدي كذلك إلى الكفر بالإنسانية، وهو ما يعني ضرورة إحداث مراجعات حول مفاهيم الإله والإنسان، والتخلص من فكرة «الإنسان/الإله» التي أنتجت الأكاسرة والقياصرة وبنيامين نتنياهو وأدولف هتلر.