تعز... تدوير الجريمة والاستثمار السياسي
تشهد مدينة تعز اليمنية توتّرات شعبية وسياسية، تتحرّك ما بين مطالب الشارع في فرض العدالة وإصرار السلطة على حماية مراكز نفوذها.
ومع أن حراك الشارع وضع الألوية العسكرية في الواجهة، أي في دائرة الاتهام والمسؤولية، لأنها تتصدّر ملفّ الجرائم في المدينة، فإن طبيعة السلطة المحلّية وأجهزتها الأمنية تعيقان فرصَ تثبيت العدالة، إلى جانب مخاطر استثمار الجرائم سياسياً، ونزعها من سياقها الحقوقي والمدني.
وتعتمل بُنية الجريمة في مدينة تعز من خلال تشابك المجتمعي والسياسي، ودورهما التضافري في توليد الجريمة واستدامتها تبعاً للعلاقة التبادلية التي أنتجتها معادلة القوة في الأرض، مع صعود مراكز نفوذ متعدّدة فرضت وجودها بالعنف، وباستغلال علاقتها بشبكات السلطة،
مقابل تأكيد ولائها السياسي أو العشائري، إلى جانب أن تسليح النطاقات الريفية من الأحزاب السياسية أدّى إلى طغيان الريف على المدينة، وتنامي عصابات مسلّحة تحتمي بقوى النفوذ الصاعدة، وتستمدّ منها قوتها،
فيما تنخرط مقاولاً يدير اقتصاد الحرب لصالحها، فأصبحت أداةً للجريمة المنظّمة.
وإذا كانت حالة الحرب قد جعلت من الانخراط في الجيش وسيلةً لتأمين الحياة بالنسبة إلى قطاعات واسعة من الشبان، فإن كثافة الألوية العسكرية، وتوقّف جبهات الحرب، حوّلها قوةً موجّهةً ضدّ المدنيين.
يضاف إلى ذلك، فإن مسارات تكوينها جعلتها نواةً صلبةً تمثّل هُويَّات قروية وجهوية متصارعة، تتنافس على موارد الدولة، وعلى نهب ممتلكات المواطنين.
بموازاة ذلك، قلّصت الأحزاب المنضوية في السلطة من فرص تحييد مؤسّسات الدولة، وفي مقدّمها المؤسّسة الأمنية، ما أدّى إمّا إلى تعطيل الأمن، أو استخدامه من الحزب المهيمن أداةً لتحجيم شركائه أو استهدافهم.
سياسياً، وضعت مستويات الجريمة ونطاقاتها حزب التجمّع اليمني للإصلاح في دائرة الغضب الشعبي، لانتماء معظم المتورّطين في الجرائم للألوية العسكرية التابعة له،
إضافة إلى تحدرهم من مناطق الثقل القروي الموالي للإصلاح، وأيضاً الحماية التي يتمتّعون بها، إضافة إلى أنه الحزب المهيمن على السلطة، ومن ثمّ يدير المعادلة الأمنية.
ومع أن الثقل المركزي لحزب الإصلاح يتمثّل في التشكيلات العسكرية التي باتت أداةً لفرض القوة ضدّ خصومه، ومن ثمّ يتحمّل المسؤولية عن انتهاكات المنتسبين إليها في حقّ المواطنين، من المهم هنا الفصل ما بين الانتساب العسكري للألوية من جهة الانتماء السياسي، والتضمّن بناءً على الهُويَّة القروية،
إذ ليس بالضرورة أن تستلزم إحداهما الأخرى، ناهيك عن أن تكون شرطاً للعنف.
ومن جهة ثانية، فإن مسارات الألوية العسكرية بعد سنوات الحرب الطويلة حوّلها سلطةً موازيةً، أيّ ثقلاً مستقلّاً عن حزب الإصلاح، أو على الأقلّ لا يستطيع السيطرة عليه، حتى لو أصبح عبئاً سياسياً عليه.
ومن جهة أخرى، وفي اختلالات الألوية العسكرية، مهم أيضاً استرجاع الإطار التوافقي الذي أسّسها، وترتب منه، ليس تحوّلها مركزَ ثقلٍ قروياً سياسياً متعدّد الأقطاب فقط،
بل مظلّةً للجريمة التي تتشارك فيها الأحزاب جميعاً، ممّا يجعلها تماماً مثل حزب الإصلاح تتحمّل المسؤولية السياسية الأخلاقية عن الجرائم ضدّ المواطنين.
إذ كان تشكيل الجيش الوطني في تعز نتاج تقاسم الأحزاب التي قدّمت أنصارها وضمّتهم في الألوية، ومع أن النسب عكست تفاوتاً لصالح الإصلاح، الذي وظفّه بالزّج بقطاعاته الشعبية في قوامها إلى جانب تشكيل ألوية مستقلّة تابعة له، فإن المحصلّة كانت تسييس الجيش، ومن ثمّ تكريس اختلالاته واستقوائه على المواطنين.
كما أن الانتقال الوظيفي في مهمة الألوية التي فرضتها معادلة الصراع بين القوى السياسية، أدّى إلى تحوّلها أداةً للدفاع عن نطاقات النفوذ الجغرافية التي تنتمي إليها، لا عن الدولة.
ففي مقابل تحوّل الألوية العسكرية التابعة للإصلاح مركز ثقل قروياً يعكس هُويَّات صاعدة ومتنافسة أيضاً، أي مخلاف وشرعب وجبل حبشي، فإن الألوية العسكرية الأخرى من اللواء 35، الذي عكس أيضاً تحالفات الأحزاب اليسارية والناصرية وهُويَّاتها القروية، إلى ألوية العميد طارق عبد الله صالح في الساحل الغربي، تحوّلت هي الأخرى قوةً تحمي مراكز نفوذ جهوية وسياسية، وأداةً لانتهاك المواطنين،
كما أن الصراع على الموارد، سواء التنافس على عائدات المنافذ الداخلية والخارجية في المدينة أو اقتصاد الحرب،
وأيضاً نهب إيرادات مؤسّسات الدولة كانت نتيجةً لتوزيع جغرافي للنفوذ والهيمنة، والأهم تواطؤ الأحزاب لاقتسام مؤسّسات الدولة ومواردها،
إلى جانب أن انضواء الأحزاب في سلطة تشاركية، ترتب عليه، ليس التواطؤ مع اختلالاتها فقط، من الفساد المالي والإداري، بل تعطيل أيّ محاولة لإصلاح مؤسّسات الدولة،
وهو ما أظهرته تسريبات اغتيال مديرة صندوق النظافة والتحسين في تعز إفتهان المشهري، التي كشفت تحالفات الفساد والصراع على الموارد، واستغلال الوظيفة العامة،
إذ طاولت الاتهامات، إلى جانب قيادات عسكرية ومشائخ تابعين للإصلاح، هرم السلطة المحلية نفسها، من قيادات منتمية إلى حزب الإصلاح إلى حزب المؤتمر الشعبي العام،
ومن ثمّ مراكز ثقل متجذّرة تعبّر عن تحالفات قروية مهيمنة أكثر منها أحزاباً سياسية.
تكمن إشكالية تدوير الجريمة واستدامتها في مدينة تعز لا في طغيان جيش متعدّد الهُويَّات والولاءات فقط،
بل وفي إشكالية الأمن نفسها التي يتضمّنها اختلال فكرة الدولة وتوظيفها بعيداً من غايتها، أي حماية المواطنين، إلى جانب تسييس المعادلة الأمنية من الأحزاب السياسية، سواء حزب الإصلاح أو خصومه،
تضاف إلى ذلك تجارب الحملات الأمنية السابقة ونتائجها، وقنوات التخادم للإفلات من العقاب.
وإذا كانت هيمنة حزب الإصلاح على السلطة قد تبعتها سيطرته على هياكل الدولة، أي تحويلها مقارَّ لألويته العسكرية ورفض إخلائها، فإنه فشل في تقديم نموذج أمني محترم،
إذ ظلّ طرفاً يعيق تحقيق العدالة، ورفضت قياداته العسكرية إخلاء منازل المواطنين التي تسيطر عليها في مناطق نفوذها، إلى جانب توظيف تثبيت الأمن أداةً لإدارة صراعاته ضدّ خصومه، كما يحدث حالياً في المواجهات التي تشهدها منطقة التربة.
ومع أنها أصبحت بؤرة للجريمة، فإنه رفض تقديم المتورّطين في الجرائم من قيادات الألوية التابعة له، الأمر الذي ترتب منه تسييس الأمن، سواء من الحزب أو من خصومه، والأهم تقويض أيّ إمكانية لتحييد الجهاز الأمني جهةً تضبط الخارجين عن القانون.
كما أن تجارب الحملات الأمنية طيلة سنوات الحرب أفقد الجهاز الأمني ثقة الشارع في نزاهته بعد تهريب عدد من المجرمين خارج البلاد.
بالموازاة مع ذلك، منح ضعف الجهاز الأمني مقابل طغيان الألوية العسكرية على المستوى السياسي أفرادها ثقةً في ارتكاب الجرائم من دون أيّ عواقب بالركون إلى الحماية التي توفّرها لهم الألوية العسكرية ومراكز النفوذ المجتمعية والسياسية.
ومن جهة أخرى، يمثّل تخادم سلطات الحرب عاملاً إضافياً في توفير الحماية للقتلة، ففي مقابل منطقة الحوبان الخاضعة لسلطة جماعة الحوثي، التي شكّلت ملاذاً للمجرمين والمطلوبين أمنياً،
فإن منطقة الساحل الغربي باتت هي الأخرى ملاذاً للقتلة من المتورّطين في قضايا جنائية أو في اغتيالات سياسية، بما في ذلك عناصر تنظيم القاعدة المتّهمين باغتيال العشرات من الجنود.
وإذا كان حراك الشارع في مدينة تعز قد وضع جرائم الألوية العسكرية تحت الضغط السياسي، فإن التشديد الأمني (والإعلامي) في الساحل الغربي، لا يتيح أي إمكانية لتحريك قضية جرائم الألوية العسكرية هناك، ومن ثمّ تستفيد قوى الحرب (على اختلافها) من الانقسام الجغرافي في تعز، والتواطؤ والحماية، لتعزيز مبدأ الإفلات من العقاب.
في المحصّلة، يستلزم القضاء على الجريمة في مدينة تعز، والأهم الانتصار للضحايا، سلطةً سياسيةً تحترم سيادة القانون ومبادئ المواطنة، فتعمل على تعزيز استقلالية المؤسّسة الأمنية، ومن ثمّ التزام السلطة المحلّية بتسليم المتورّطين في الجرائم ضدّ المواطنين، سواء من مسؤوليها أو من قيادات وجنود الألوية العسكرية،
وأيضاً ضمان نزاهة التقاضي حتى إنصاف الضحايا، وتتأتى بالدفع سياسياً وشعبياً بتطهير الجيش من العصابات الإجرامية، ومن ثمّ تجاوز الاستثمار السياسي لأحزاب تدّعي الطهرانية، أو تخندق حزب مهيمن، يقتطع القتلة أيّاً كان ثقلهم من رصيده السياسي.
* كاتبة وناشطة يمنية