Logo

اليمن: حكاية أرض السعيدة بين المجد ومرارة الخذلان

 لا يُمكن لمتأمل في شؤون اليمن اليوم إلا أن يتوقف أمام المفارقة الكبرى. كيف تحولت أرض سبأ وحمير، مهد الحضارات وموطن نشوان بن سعيد الحميري (الذي مجَّد في فكره وتاريخه أصالة اليمن ونبذ التبعية)، إلى مرادف للضنك والشقاء؟ 

إنها حكايةٌ مركبةٌ تتجاوز مجرد الصراع السياسي، لتلامس الفشل الفلسفي في بناء الدولة وغياب العدالة الوجودية.

أولاً: التركة الثقيلة.. من الوحدة الموعودة إلى حرب الإقصاء

لم تكن الأزمة الراهنة وليدة فراغ، بل هي تراكم لـ "خيبات متتالية". فبعد قرون من الحكم الإمامي في الشمال، وما تلاه من استعمار في الجنوب، جاءت ثورتا سبتمبر 1962 و أكتوبر 1963 لتبعثا أملاً في قيام دولة حديثة. 

لكن الحلم الحقيقي تجسد في الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990. كان ذلك الحدث العظيم هو ذروة الطموح الوطني.

لكن ما أفسد هذا المنجز كان غياب "الشراكة الحقيقية". فبدلاً من أن تُبنى الوحدة على أساس العدل في تقاسم السلطة والثروة، بُنيت على "المحاصصة والمركزية".

 لم تمر أربع سنوات حتى انفجر الخلاف في حرب صيف 1994، التي لم تكن مجرد حرب أهلية عابرة، بل كانت ضربة قاصمة لمفهوم الشراكة، وأرست مبدأ الإقصاء السياسي كأداة حكم، وزرعت بذور السخط التي استغلها لاحقاً الجميع.

ثانياً: الخذلان المشترك.. عندما تتحول المساعدة إلى تدخل مُفسد

هنا تتجلى الفلسفة المُرّة لواقع اليمن: الخذلان لم يأتِ من جهة واحدة، بل كان خذلاناً مُشتركاً ومُتبادلاً.

 * الخذلان الداخلي (اليمني): القوى السياسية اليمنية، وبخاصة النخبة التي تولت زمام الأمور، فشلت في قراءة التاريخ. انشغلوا بـ "صراع الأصفار" ومكاسبهم الشخصية، وتركوا الدولة فريسة للفساد والفشل. 

هذا الضعف هو ما مهد الطريق لتصاعد الحركات المسلحة كالحوثيين الذين سيطروا على صنعاء في 21 سبتمبر 2014، مستغلين الفراغ الأخلاقي والسياسي.

 * الخذلان الإقليمي والدولي: التدخل الإقليمي الذي جاء على شكل "عاصفة الحزم في مارس 2015" كان استجابة ضرورية لحفظ الشرعية والحدود، لكنه تحول مع مرور الوقت إلى "إدارة صراع" أكثر منه "مشروع بناء دولة".

 فبقدر ما قُدّم من دعم عسكري، غاب التركيز على مشروع سياسي واقتصادي شامل ومحايد. 

أما المجتمع الدولي، فكان خذلانه أشد مرارة، إذ اكتفى بـ "التسكين الإنساني" (إدارة الكارثة) بدلاً من "التسوية السياسية القسرية" (حل الأزمة)، ليصبح اليمن مسرحاً مفتوحاً للصراعات بالوكالة.

ثالثاً: الطريق المنطقي للتعافي.. إرساء العدل كقيمة وجودية

إن الخروج من هذه الحلقة المفرغة يتطلب تفعيل العقل والمنطق، والاعتراف بأن لا غالب ولا مغلوب، وأن السلام المستدام هو النصر الوحيد. لا يمكن تحقيق أي تقدم دون تبني حزمة حلول واقعية ومترابطة:

 * البناء السياسي على مبدأ اللامركزية: يجب الانتقال إلى مرحلة انتقالية جديدة تحت رعاية أممية-إقليمية حازمة. الهدف الأول هو تحديد شكل الدولة المستقبلي (فيدرالية واسعة أو دولتان) عبر مؤتمر وطني يليه استفتاء ملزم. 

هذا ينهي الصراع على الهوية والشكل، ويؤسس لمبدأ المواطنة المتساوية.

 * تفكيك القوة وإرساء السيادة: يجب فصل الملف العسكري عن الملف السياسي فوراً. الحل يكمن في نزع سلاح الميليشيات ودمج القوات في جيش وطني مهني عقائده "يمنية محضة"، مع التركيز على تطبيق اتفاقيات دمج القوات في مناطق الشرعية (على غرار روح اتفاق الرياض 2019).

 * تجريد الاقتصاد من السلاح: لا يمكن لأي سلام أن يستقر دون تفعيل مبدأ "الدولة الجابية المُنفِقة". يجب تحييد البنك المركزي وإدارته بواسطة مجلس محايد، وتوحيد الإيرادات (بما فيها عائدات النفط والغاز) لضمان دفع مرتبات جميع موظفي الدولة في كل المحافظات، كأول خطوة حقيقية لـ "بناء الثقة الاقتصادية" على غرار ما تم جزئياً في هدنة 2022.

إن الفلسفة التي يجب أن تقود الحل هي أن العدل في تقاسم الموارد والسلطة ليس مطلباً سياسياً فحسب، بل هو الشرط الوجودي لاستمرار اليمن كدولة واحدة أو دولتين متجاورتين. 

على القوى اليمنية أن تصالح ذاتها أولاً، وتتخلى عن وهم الإقصاء لصالح واقع المشاركة والندية. عندها فقط، يمكن للأشقاء والأصدقاء أن يقدموا الدعم الفعّال لبناء دولة مستقرة، بدلاً من دعم استمرار الحرب.

اليمن ينتظر قرار أبنائه بإعلاء صوت العقل والعدل فوق ضجيج البنادق والتاريخ.