مصر بين التحول الهيكلي والاستثمار في المستقبل!!
نشرتُ بالأمس تعليقًا مختصرًا حول نجاح مصر في جمع المواقف الإقليمية والدولية دعمًا لوقف التهجير والتدمير الذي يتعرض له الفلسطينيون وانها تصنع تحول اقتصادي وسياسي،
وقد أثار ذلك موجة من الانتقادات العاطفية والانفعالية من بعض القرّاء وخرج بعضهم يصيح بأن التنمية متعثرة،
وكأنهم اكتشفوا فجأة أن طريق التقدم يجب أن يكون مفروشًا بالورود، يريدونه إنجازًا سريعًا ومعجزة بلا جهد ولا صبر ولا معاناة، متناسين أن الأمم لا تُبنى إلا بالعزيمة والتحمل.
فمن بين الدول العربية التي أتابع تحوّلاتها الاقتصادية عن بعد — المملكة العربية السعودية، ومصر، واليمن — هنا تظل التجربة المصرية أمامي الأكثر تعقيدًا وتشابكًا، لأسباب ترتبط ببنية الاقتصاد والمجتمع وتحديات الإدارة والتنمية المستمرة منذ عقود.
فمصر واجهت خلال العقدين الأخيرين ضغوطًا ضخمة: تضخم موروث وجهاز اداري عتيق غير منتج ولا مبدع، وبنية تحتية منهكة، وعملية تعليمية جامعية غير فاعلة، وعدد سكاني متزايد، واحتقان سياسي، واستهداف خارجي، وفقـر متنامٍ جعل من الإصلاح الاقتصادي خيارًا لا مجال لتأجيله.
لقد كان ذلك الإصلاح الخطوة الأولى لإعادة بناء الدولة المصرية وخلق تماسك داخلي حول مشروعها الوطني، حتى وإن جاء مؤلمًا لشرائح واسعة من المواطنين.
ما قام به الرئيس عبد الفتاح السيسي وفريقه الاقتصادي يمكن وصفه بأنه عملية جراحية دقيقة ومؤلمة لإعادة مصر إلى مسارها الصحيح نقيم مجملها وليس تفاصيلها. فالحلول لم تكن وصفات سحرية، بل قرارات صعبة تحمل تكاليف اجتماعية واقتصادية كبيرة، لكنها ضرورية لتفادي انهيار شامل اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا.
ورغم قسوة الإصلاح ومعاناة شرائح كبيرة، فإن مصر خاضت خلال السنوات الأخيرة واحدة من أوسع عمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية في المنطقة — إلى جانب المملكة العربية السعودية — وبوتيرة سريعة غايتها تأسيس اقتصاد إنتاجي مستدام.
الفرق بين التجربتين أن المملكة انطلقت من قاعدة مالية نفطية قوية، بينما كان على مصر أن تبحث عن بدائل تمويل واستثمار داخلية وخارجية لتحقيق رؤيتها المستقبلية.
تجسدت هذه الرؤية في حزمة المشروعات القومية الضخمة التي أعادت رسم الخريطة التنموية لمصر.
فالعاصمة الإدارية الجديدة مثلًا، بتكلفة تتجاوز 58 مليار دولار، أعادت توزيع النشاط الإداري والاقتصادي، ووفرت مئات الآلاف من فرص العمل في قطاعات المقاولات والخدمات والتكنولوجيا. ومشروع “حياة كريمة” نقل مفهوم التنمية من المدن الكبرى إلى الريف المصري، في تجربة شبيهة بنماذج الصين وكوريا الجنوبية، عبر دمج القرى في الاقتصاد الوطني وتحسين جودة الحياة للمواطنين.
وفي قطاع الطاقة، قطعت مصر خطوات نوعية مع مشروع بنبان للطاقة الشمسية في أسوان ومحطة الضبعة النووية بتكلفة 30 مليار دولار، لتصبح مركزًا إقليميًا للطاقة المتجددة والمتنوعة المصادر.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ جاء محور قناة السويس الجديدة بتكلفة 8 مليارات دولار ليعزز موقع مصر كممر دولي حيوي ومركز لوجستي عالمي. أما في القطاع الزراعي — وهو أحد ركائز الأمن القومي — فقد أطلقت الدولة مشروعات “مستقبل مصر” و“الدلتا الجديدة” و“العاصمة الزراعية”، ضمن خطة لاستصلاح ملايين الأفدنة بالاعتماد على التقنيات الحديثة ومشروع “النهر الجديد” لتحسين إدارة الموارد المائية وضمان الأمن الغذائي.
وفي المجال الصناعي، لم تكتفِ مصر بالصناعات التقليدية، بل انفتحت على استثمارات عالمية في قطاعات التقنية والتصنيع المتقدم، مثل شركات سامسونج وهاير وجريفولز، ما يعكس تصاعد الثقة الدولية في البيئة الاستثمارية المصرية ويؤكد أن الصناعة أصبحت القلب الحقيقي للتحول الاقتصادي.
وفي موازاة ذلك، واصلت مصر الاستثمار في رأس المال البشري عبر مشروعات طبية وتعليمية مثل مستشفى مجدي يعقوب العالمي للقلب ومجمع 500/500 لعلاج السرطان، وهما مشروعان يمثلان بعدًا إنسانيًا وعلميًا متقدمًا في منظومة التنمية. أما في السياحة والثقافة، فقد عززت مصر موقعها كمركز حضاري وسياحي عالمي عبر مشروعات مثل المتحف المصري الكبير، ورأس الحكمة، والعلمين الجديدة، إلى جانب تحديث شبكات الطرق والجامعات والموانئ ومشروع التأمين الصحي الشامل لتحقيق العدالة الاجتماعية في الخدمات.
أما في الجانب العسكري والتصنيعي، فقد شهد الجيش المصري عملية تحديث شاملة، لتغدو مصر اليوم أكثر قوة وتنظيمًا وكفاءة مما كانت عليه قبل عقد من الزمن.
نعلم أن القيادة المصرية لا تملك عصًا سحرية تغير الواقع بين ليلة وضحاها، لكنها تحمل إيمانًا راسخًا بأن مسارها هو الطريق الصحيح، مستندة إلى إرث حضاري هو الأقدم والأغنى على هذا الكوكب، وإلى عزيمة قادرة على صناعة مستقبل يليق بمصر ومكانتها.
غير أن التحدي الأعمق لا يكمن في حجم المشاريع أو فخامتها، بل في قدرة الدولة على تحويل الإنفاق الاستثماري إلى اقتصاد إنتاجي مستدام يولّد قيمة مضافة حقيقية، بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الديون أو التمويل الحكومي وهذا يحتاج عقد من الزمن.
فالمرحلة المقبلة تتطلب التركيز على التشغيل النوعي، وتعميق دور القطاع الخاص، وتطوير بيئة الأعمال والتشريعات لجعل النمو أكثر توازنًا وعائدًا على المجتمع.
ورغم الأعباء المعيشية المتزايدة، فإن المؤشرات الاقتصادية الأخيرة تُظهر بداية تعافٍ تدريجي مصحوبًا بارتفاع في الثقة الاستثمارية وارتفاع الناتج القومي الاجمالي رغم كوارث المنطقة وارتفاع القدرة التنافسية العالمية.
وكوني أجد أن مصر تمكنت من تجاوز تداعيات جائحة كورونا، وصدمات الأسعار العالمية وازماتها في خدمة الديون وأعادت برمجة العديد من قطاعات مجتمعها باتجاه أولويات اقتصادية وتعليمية وخدمية جديدة تتسق مع رؤية الدولة للتنمية الشاملة، وتوترات المنطقة دون المساس بمسارها الإصلاحي أو استقلال قرارها الاقتصادي فهذا ايضًا نجاح.
فما يجري في مصر اليوم من وجهة نظري ليس مجرد طفرة عمرانية أو مالية، بل تحول هيكلي شامل يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع والاقتصاد، ويؤسس لمرحلة جديدة تتوازن فيها أدوار السلطة والسوق والمجتمع المدني في صياغة اقتصاد أكثر كفاءة وعدالة.
وبقدر ما كانت البدايات مؤلمة وحتى صعوبة الحاضر، فإن المستقبل يحمل فرصًا واعدة لاقتصاد مصري أكثر نضجًا واستقرارًا، إذا ما تم الحفاظ على وتيرة الإصلاح وربطها برسالة واضحة أن التنمية الحقيقية لا تُقاس بالبنى التحتية، بل بقدرة الدولة على بناء الإنسان ومشاركته الفاعلة في إنتاج المستقبل.