اليمن: الصراع على السلطة وشعارات الوحدة والانفصال
قبل سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء – وأثناء مؤتمر الحوار الوطني – كانوا يعلنون تأييدهم لتقسيم اليمن إلى أقاليم فدرالية، بل وأيدوا «تقرير المصير» لجنوب البلاد، وأظهروا دعمهم لمطالب الحراك الجنوبي – حينها – بـ«فك الارتباط» واستعادة الدولة الجنوبية التي اتحدت مع الدولة الشمالية في كيان سياسي واحد عام 1990.
بعد وصول الحوثيين للسلطة في صنعاء، توجهت ميليشياتهم للسيطرة على عدن، متنكرين لوعودهم لبعض المكونات الجنوبية بالوقوف معها، لاستعادة الدولة الجنوبية وتقسيم اليمن.
هكذا وبين عشية وضحاها أصبح الحوثيون وحدويين، يرفضون حتى الفدرالية التي كانوا أول من طالب بها، ضمن مداولات مؤتمر الحوار الوطني الذي استمر لمدة عام، وانتهت أعماله في يناير/كانون الأول 2014، ليرفع الحوثيون اليوم شعارات الوحدة اليمنية والدفاع عنها.
وضمن سلطة الرئيس اليمني السابق عبدربه منصور هادي كانت هناك قيادات جنوبية مع وحدة البلاد، غير أنها عندما خرجت من مناصبها، انضمّت إلى المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالعودة إلى فترة الدولتين، قبل تحقيق الوحدة اليمنية.
وقبل هذا التاريخ في اليمن كانت هناك قيادات يمنية جنوبية، ضمن سلطة الرئيس اليمني الأسبق علي عبد الله صالح، حاربت تلك القيادات عام 1994، مع قوات الحكومة اليمنية آنذاك، حاربت القوات التي كان يقودها نائب الرئيس الأسبق علي سالم البيض الذي أعلن «فك الارتباط» عن دولة الوحدة، وتبنى العودة إلى الدولة الشطرية.
بعد سنوات استطاع الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح استيعاب الكثير من القيادات الجنوبية التي قاتلت من أجل «فك الارتباط»، والتي خرجت من اليمن بعد حرب 1994، فعادت تلك القيادات إلى الوطن، وأصبحت تدافع عن الوحدة اليمنية، قبل أن تعصف الأحداث الأخيرة بالبلاد، ويسقط نظام صالح، ليعود كثيرون مجدداً إلى صفوف دعاة تقسيم البلاد، في تنقلات عجيبة بين المواقف السياسية والمبدئية المختلفة.
وفي ستينيات القرن الماضي ثار اليمنيون – في شمال البلاد – على نظام حكم ثيوقراطي إمامي، كان قد دخل في حرب حدودية مع المملكة العربية السعودية، بدعوى حماية استقلال اليمن، والدفاع عن أراضيه، ولما أطاح الثوار اليمنيون بهذا النظام طلبت قياداته العون من السعودية التي كان يحاربها، واستنجدت تلك القيادات بـ«عدو الأمس» من أجل مواجهة الثوار الجمهوريين، ولما هُزم هذا النظام لجأت قياداته إلى المملكة التي عاشت فيها تلك القيادات عقوداً طويلة، ومن بين تلك القيادات بدر الدين الحوثي، والد زعيم الحوثيين الحالي عبدالملك الحوثي.
ظل بدر الدين الحوثي عقوداً طويلة في المملكة، ضيفاً يتمتع وأسرته بامتيازات وكرم ضيافة كبير، إلى أن تحققت الوحدة اليمنية، وسمح بالتعددية السياسية في اليمن الموحد، حيث عاد الحوثي مع قيادات إمامية أخرى، لينشئ حزب «الحق» الذي ضم القيادات الإمامية التي لجأت للسعودية، وهو الحزب الذي حدثت انقسامات في صفوفه لاحقاً، ليشكل كثير من قياداته وعناصره – فيما بعد – تنظيم «الشباب المؤمن» الذي كان الاسم التنظيمي للحوثيين، قبل تحولهم إلى اسمهم الحالي «أنصار الله».
وهنا نلحظ أن الإماميين في اليمن كانوا ضد السعودية عندما كانوا في السلطة، قبل عام 1962، ثم عادوا للتحالف معها بعد الثورة الجمهورية التي أطاحت بهم، ثم لجأوا إليها، وظلوا بها فترة طويلة، قبل أن يعودوا لليمن، ليشكلوا تنظيماً جديداً انتهت قيادته إلى عبد الملك الحوثي الذي يقول إنه اليوم يحارب السعودية، للحفاظ على استقلال اليمن، وهو الذي تحالفت أسرته وعاشت فترة طويلة في السعودية، بعد هزيمة الإماميين في البلاد.
ما الذي يجري؟
لماذا يكون شخص ما وحدوياً في فترة، ثم انفصالياً أو فدرالياً في فترة أخرى؟
لماذا يكون ضد التدخل الأجنبي في بلاده وهو في السلطة، ثم يطلب التدخل الأجنبي عندما يخرج منها؟
لماذا إذا وصلنا للسلطة تبنينا خيارات الوحدة، ورفض التدخل الأجنبي، وإذا خرجنا منها عدنا لطرح مقولات التقسيم والانفصال والفدرالية، والمطالبة بتدخل الخارج؟
ما هو التوصيف الحقيقي لهذه الحالة المرضية؟
إنها السلطة، الكلمة السحرية، والشهوة العظيمة التي تجعل الشخص مع الوحدة إذا حاز السلطة، وضد الوحدة إذا ضيّع تلك السلطة. السلطة التي هي هدف الأهداف، وهي القصد من وراء كل التكتيكات، وهي المعنى الأساس الكامن ضمن لفظة «الوحدة»، وهي الدلالة العميقة لمفردة «الانفصال»، حيث تكون السلطة في صميم أهداف الداعين للوحدة، كما تكون في صلب اهتمام الساعين للانفصال.
وهي السلطة التي تجعل الوطنيين يقاتلون الأجنبي، ويلبسون لبوس الوطنية، ثم هي السلطة التي تجعلهم يعودون لأحضانه، مقاتلين في صفوفه، لمجرد أنهم توهموا أن الأجنبي يمكن أن يعيدهم إلى كراسي السلطة،
والتاريخ مليء بشواهد لا حصر لها على ثوار ثاروا ضد المستعمر، ووصلوا إلى السلطة، ثم لمّا حدثت تغيرات سياسية، أو انقلابات عسكرية، ووجدوا أنفسهم بموجبها خارج السلطة، اضطروا للجوء إلى «المستعمر الذي حاربوه»، من أجل أن يساعدهم في العودة مجدداً إلى السلطة.
ساحرة هي السلطة وخطيرة في الوقت ذاته، إلى الحد الذي يجعل الأنظمة وحدوية وطنية مادامت في السلطة، ثم يجعلها انفصالية غير وطنية إذا خرجت إلى المعارضة، وقد شهد تاريخنا العربي كثيراً من الوحدويين لكونهم في السلطة، والانفصاليين بعد خروجهم منها.
وهي حالة مرضية تعتمد على الذاكرة المثقوبة للشعوب، كما تعكس ضرباً من الاستخفاف بالرأي العام، والانتهازية والتلون والتقلب، وغيرها من السمات التي أصبحت صفة ملازمة للكثير من الساسة في اليمن والبلاد العربية.
الخلاصة: لو اتفقت مجتمعاتنا ونخبنا السياسية والحزبية على الطريق السلمي للوصول إلى السلطة، عبر الانتخاب الشعبي، فإن كثيراً من الكوارث الناجمة عن الصراع على السلطة ستنتهي، أو على أقل تقدير، لن تكون بهذا الشكل الممجوج من الانتهازية والتلون، والانتقال بين الشعارات الخادعة والمواقف المتضاربة، بين «الوحدة» و«الانفصال».