Logo

أزمة الذاكرة ومرآة الجزيرة

 إنّ الناظر في تعقيدات المشهد اليمني لا يملك إلا أن يتجاوز زحام الأحداث الآنية ليغوص في أعماق "الذاكرة الجمعية" و"العقل الجمعي" اليمني، ذلك الوعاء التاريخي الذي يختزن عقوداً من التهميش وصراع الهويات.

 إن مشاكل اليمن ليست مجرد اضطراب محلي، بل هي ارتداد وتكثيف لصراع أقدم وأوسع نطاقاً؛ صراع يمني - عربي، يجد ذروته في خاصرة الجزيرة العربية.

إنّ اليمن -بتاريخه العريق وموقعه الإستراتيجي وبؤسه الحاضر- لم يكن يوماً جزيرة معزولة.

 إن مصائبه هي في جوهرها انعكاس لمشاكل الجزيرة العربية بأسرها، ومرآة صادقة لتصدعات الهوية والمصالح الإقليمية. 

فاستمرار سياسة تهميش اليمن كـ"حديقة خلفية" مهملة، والتغافل عن دوره كعمق إستراتيجي، كان بمثابة اللعب بالنار. هذه السياسة، القائمة على الإقصاء بدلاً من الاحتواء، هي التي خلقت "البؤر" التي يتحدث عنها القارئ.

لقد وجد الاستقطاب الأيديولوجي والإرهابي تربة خصبة في رحم هذا التهميش.

 فـالفراغ الأمني والاقتصادي والثقافي الناتج عن التخلي عن الدولة في صنعاء، جعل قطاعات واسعة من الشباب اليمني، الذين يمتلكون تاريخياً حساسية عالية للهوية والكرامة، هدفاً سهلاً للتنظيمات المتطرفة التي تَعِدُ بالكرامة البديلة أو بالخلاص.

وفي خضم هذا الإهمال، وجدت إيران، التي لطالما كانت تتربص بحدود الجزيرة، موطئ قدم.

 لقد استغلت إيران هذا الشرخ التاريخي ونجحت في تجنيد فئة من الشعب وربطها بأجندتها، لتصبح هذه القوة -جماعة الحوثي- شوكة حقيقية في خاصرة الخليج، وأداة فاعلة لتصدير القلق وزعزعة الاستقرار. 

إن هذا الموقف الإيراني ليس سوى جزء من أجندة توسعية واضحة المعالم، هدفها خلق مناطق نفوذ خارج حدودها وتصفية حسابات تاريخية، عبر زرع ميليشيات وجيوش موازية للدولة.

ولنتأمل للحظة، من منظور الفلسفة البراغماتية للتاريخ، ما كان يمكن أن تكون عليه النتيجة لو تبنت دول الجزيرة استراتيجية الاحتواء الإيجابي. 

لو تمّ استيعاب الطاقات اليمنية -البشرية والثقافية- في نسيج الجزيرة الاقتصادي والأمني، لكانت هذه الطاقات قوة هائلة تخدم مصالح المنطقة برمتها. 

كان يمكن أن يكون الجيش اليمني المحترف درعاً حصيناً، وأن تكون الأيدي العاملة اليمنية عاملاً منتجاً بدلاً من أن تتحول إلى وقود لصراعات لا تنتهي. 

والأهم من ذلك، كان هذا الاحتواء ليصون ويحمي الهوية الثقافية والتاريخية المشتركة للجزيرة، بدلاً من تفتيتها على أيدي الأجندات الخارجية.

ولكن ما حدث هو النقيض: تدخلات عسكرية وسياسية، وإن جاءت تحت مسمى "استعادة الشرعية"، 

إلا أنها للأسف عملت في كثير من الأحيان على تفكيك ما تبقى من مؤسسات الدولة، وزرع جيوش وكيانات عسكرية خارج إطار الدولة الشرعية، جيوش من المرتزقة تُدار بولاءات عابرة، ما زاد الطين بلة.

 فبدلاً من أن يتفرغ اليمنيون لمواجهة التحدي الإيراني المتمثل في جماعة الحوثي، أصبحوا يصارعون أنفسهم في صراعات جانبية ممولة ومدعومة.

لقد وجد جزء من الشعب اليمني نفسه في مفترق طرق مرير: فإما أن ينضم إلى الحوثي انتقاماً لدور دول الخليج الذي يراه تخلياً وتدميراً، أو خوفاً من بطشهم وسط غياب أي ظهر أو حماية حقيقية من "الشرعية" أو حلفائها. 

هذا التخلي خلق الشعور بأن الدولة، والقوى التي تدعمها، عاجزة عن حمايتهم، فكان الانضواء تحت راية الميليشيا سبيلاً للبقاء في ظل انعدام الضمان.

إن جوهر المأساة يكمن في إهمال الجذور التاريخية لليمن كقوة إقليمية ضاربة، وقيمة حضارية، هذا الإهمال هو الذي أدى إلى تفكيك الركائز الجمعية وإسالة الدم اليمني في صراعات عبثية، بينما كان يمكن أن يكون قوة احتواء وتوازن في المنطقة.

 لقد حان الوقت للقراءة الواعية للتاريخ، قبل أن تتحول الجزيرة بأسرها إلى تضاريس للصراعات الإقليمية التي أُجِّلَت طويلاً.