اليمن: وطن في غيبوبة
يموت الوطن حين يموت وعيه، حين لا يجد بين أبنائه من يصرخ للحق، أو يكتب بالحقيقة، أو يداوي الجرح بالكلمة.
نحن لا نموت بالرصاص فقط، بل نموت بالصمت، بالخذلان، باللامبالاة، نموت حين يتحول الألم إلى مادةٍ للسخرية، وحين تُصبح التفاهة وسامًا يُعلّق على صدور الحمقى.
لقد غرقنا في زمنٍ انقلبت فيه الموازين، وصار الحمقى هم الواجهة الإعلامية للأمم، والجهل سلعةً رائجة تُشترى بالملايين من الإعجابات والمشاهدات.
يخرج شاعرٌ يلقّب نفسه شاعر الشهداء، فتضجّ السوشيال ميديا بين ساخرٍ ومؤيد، وكأننا أمام حدثٍ وطنيٍّ عظيم، ثم يظهر المومري وعضيمان وجحاف والعرجمي وغيرهم من هذا الطفو المريض، فيتحولون إلى رموزٍ ويتصدرون الشاشات،
بينما الأقلام الصادقة تختفي في الظل، تموت بصمتٍ لأن أحدًا لم يعُد يصغي للعقل، بل فقط للضجيج.
أيّ زمنٍ هذا الذي يهضم فيه الفكر ويُكافأ فيه الهزل؟
زمنٌ يُسحق فيه المبدع تحت أقدام الصخب، ويُرفع التافه على أكتاف الجمهور.
زمنٌ ضاعت فيه البوصلة، حتى صار معيار الشهرة ليس الفكرة بل الحماقة، وليس العطاء بل الضجيج.
في هذا البلد الذي ينزف جوعًا وتشردًا، لا نرى بين آلاف المقاطع والبرامج من يكتب بصدق عن الوطن، من يصرخ لأجل الناس، من يفكر في حلٍّ واحدٍ يخفف المعاناة.
اسأل نفسك بصدق، وكن واقعيًا: هل رأيت في اليمن اليوم من يكتب عن البلاد والعباد؟ من يتألم لمصيرهم أو يضع حلولًا لمآسيهم؟
الجواب موجع: لا. لأن المخلصين يُغتالون بالصمت، والمفكرين يُحاصرون بالتهميش، بينما الأغبياء يصعدون على أكتاف الغوغاء.
لقد تحولت المنابر إلى مهرجانات صخب، والوعي إلى سلعةٍ كاسدة، والكلمة الصادقة إلى نشازٍ وسط ضجيج الرقص والضحك.
وطنٌ يحترق، والناس مشغولة بمطاردة "الترند".
أمةٌ تموت، وأبناؤها يتسابقون لنشر النكات.
أيُّ عبثٍ هذا؟ وأيُّ موتٍ أشد من هذا الخدر الذي يسري في أوصالنا؟
لقد صار القات رمزًا لهذا الموت البطيء؛ فهو لا يقتل الجسد فحسب، بل يقتل الإرادة.
يجلس الناس يمضغون أوراقه الخضراء كما يمضغون أعمارهم، يسكرون بخدرٍ زائفٍ يمنحهم وهْم الراحة، بينما يتآكل الوطن حولهم.
ذلك إلى جانب الخدر الأكبر الذي يزرعه تجّار الحروب وزعماء الأجندات السياسية المغلفة بالدين، أولئك الذين عرفوا كيف يخدّرون العقول بخطابات البطولة والوعود الكاذبة.
فصار الدين عندهم سلعة، والوطن ميدانًا لتجارة الدم، والناس قطيعًا يُقاد باسم العقيدة.
وقد كتب الأديب الروسي أنطون تشيخوف عن مثل هذه المجتمعات الفاشلة، فقال في أحد تأملاته:
"في المجتمع الفاشل، يُقاس الإنسان لا بعقله، بل بقدرته على الصراخ، وحين تصمت العقول، تتكاثر الوجوه الفارغة، ويصبح الحُمق مهنةً جماعية."
وهذا هو واقعنا تمامًا؛ مجتمعاتٌ فاشلة ترفع من يضحكها وتُسكت من يوقظها، تُهلل للممثل والمهرج وتنسى العالم والمفكر.
إنه زمن انقلاب المعايير:
زمنٌ فيه الصمتُ حكمةٌ ميتة، والكلمةُ الصادقةُ تُعاقب، والفكرُ العميقُ يُدفن تحت ركام النكات.
زمنٌ يقتل النخبة ويُشهر الرعاع، حتى صار الوطن بحاجة إلى من يضيء عتمته، لا من يرقص على رماده.
نحن بحاجة إلى أقلامٍ منيرة، لا تلعن الظلام بل تزرع نورًا.
بحاجة إلى مثقفين ناضجين، يكتبون عن الإنسان، عن الفقر، عن الجرح، عن المصير، لا عن التفاهة اليومية التي تصنعها الشاشات.
نحتاج إلى عقولٍ تُعيد ترتيب القيم، تزرع في الناس روح المسؤولية والانتماء، لأن الأمم لا تُبنى بالصراخ بل بالفكر، ولا تُنهض بالجدل بل بالعمل.
إن علاج هذا المرض لا يكون بوعظٍ عابر، بل بثورةٍ فكريةٍ تُعيد تشكيل العقل الجمعي، تُعلّم الناس كيف يفكرون، كيف يشكّون، كيف يرون أنفسهم كما هي لا كما يُقال لهم أن يكونوا.
علينا أن نكسر هذه الدائرة من التخدير، أن ننهض من بين الركام ونقول:
كفى غفلة، كفى خدرًا، كفى تصفيقًا للتفاهة.
فالأمم لا تموت حين تُقصف، بل حين تفقد القدرة على التفكير.
والوطن لا يُبعث من جديد إلا حين يجرؤ أبناؤه على أن يقولوا الحقيقة، ولو في وجه الضحك الجماعي.
فمن رحم هذا الوجع، تولد النهضة، ومن تحت هذا الركام، يبدأ الوعي.