اليمن: المرايا المتعددة
اليمن... ليس ترابًا، بل مرآة التاريخ المعطوبة.
مرآةٌ كسرتها يدُ الزمن حين أُعيد تعريف الوطنية بالدم لا بالوجدان.
هنا، حيث ابتلعت القبيلة سراج الدولة، وتجذّرت الطبقية سُمًّا، صار الانتماء مُعلّقًا على شرط المذهب والولاء الأصغر.
لقد تشرذم الإدراك، وتكاثرت المرايا حتى أصبحت كل زاوية في الوطن تعكس صورةً مشوهةً لذاتها.
لقد كان التشظي عمليةً مزمنة، لا حدثًا طارئًا. فالنظام لم يأتِ ليكسر المرايا، بل ليزيدها تشويهاً وإظلاماً.
هنا يكمن مفتاح المأساة: الأنظمة لم تجهل ما تفعل، بل كانت تُتقن فنّ صناعة العتمة.
لقد أدرك الحاكم أن الإنسان الواعي آفةُ السلطان، فقام بتسييج الحكم بسياج الجهل المقصود، فاستبدل العقل بالهتاف، والعدالة بالطاعة.
حولوا المواطن إلى تابع، لا شريك، وإلى مجرد رقم في معادلة الولاء، بدل أن يكون أساساً في معادلة البناء.
هكذا تحوّل اليمن من "مصنع الروح العربية" إلى مسرحٍ للمفارقة الوجودية: كنزٌ في الأعماق، وجوعٌ على السطح.
وكأن الأرض تسخر من أبنائها، فيشعر اليمني بالخذلان وهو يقف غريبًا في أرضه الغنية.
إنها لعنة التناقض بين الثروة الكامنة والفقر المستشري، مفارقةٌ تفجّر في الصدور شعوراً بأن الوطن ذاته خذل أبناءه، فتركهم يتهاوون في دهاليز الصراع الصغير: قتالٌ على مجرى ماءٍ أو بضع أشجار، بينما تُنْهَب الجبال والموانئ والثروات في غفلة الوعي المأجور.
وحين ماتت العدالة، تحرّك الغضب الصامت. لم يعد المهمش يرى في الدولة أباً، بل سوطاً.
تحوّل المنهك والمقهور إلى وقود، وجد رزقه في الميليشيا بدل الحياة، وفي الموت بدل الرزق.
لم تكن الحروب صراعًا على الكراسي وحسب، بل كانت حربًا على ما تبقى من نور: إجهاضٌ متعمّد للوعي.
لقد فُتحت المنابر الصاخبة وأُغلقت المدارس الجادة، وكوفئ التافهون وأُقصي المفكرون.
هكذا تشتت الوطن إلى مرايا وهمٍ متناثرة: الجنوبي يرى وطنه منفصلاً، الشمالي يرى مجدًا لا يعود، والكل يخسر الوجوه أمام بريق الصفقة العابرة والمصلحة الزائلة.
كانت النتيجة نزيفًا للعقول، وهجرةً للنخب.
فالوطن الذي فشل في منح الأمان والكرامة أول مرة، لا يملك الحجة لإقناع أبنائه بالعودة ثانية.
العقل الذي وجد حريته في المنفى، لا يمكن إقناعه بوعودٍ زائفة في وطنٍ خذله.
صار اليمن جسدًا بلا رأس، ونخبة بلا قرار.
ومن بقي، إما باع قلمه بثمن بخس أو صمت خوفاً أو انزوى يأساً.
هكذا خسر اليمن أغلى كنوزه؛ لأن العقل حين يهاجر، يترك خلفه فراغاً لا يملأه هتاف ولا سلاح.
صار الوطن يتنفس على أجهزة الإنعاش الإقليمية، لا حيٌّ فيستيقظ، ولا ميتٌ فيُدفن.
لكن... لا تموت المرايا كلها.
تظل هناك مرآة نقية، صغيرة، لم يطلها الكسر بعد، محفوظة في صميم الشعب.
هي مرآة البسطاء الصامتين؛ الأم التي تطعم، الفلاح الذي يزرع رغم النيران، الشاب الذي يقرأ في الظلام.
هؤلاء هم المرآة الأخيرة، التي تعكس الوجه الحقيقي لليمن الذي لم يمت؛ اليمن الذي يسكن في النفوس التي تقاوم القبح بالجميل.
هي الشرارة التي يجب أن تُوقد مجدداً، والتي إن انكسرت يوماً، انكسر كل شيء.
إن الخلاص لن يأتِ من الأيادي الممتدة من الخارج؛ فكل يدٍ حملت سكينًا وإن غُلّفت بالوعد.
الخلاص ميلادٌ داخليّ للوعي. أن يفهم اليمني أن خلاصه في أن يرى نفسه في مرآة الآخر، لا ضده.
أن يدرك أن العدالة الاجتماعية ليست ترفاً، بل هي صمام النجاة الوحيد. الوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بالمساواة والمعرفة والعمل.
اليمن ليست مأساة جغرافية، بل أزمة رؤية ووعي.
سيبقى السؤال معلّقًا في مرآة المستقبل: هل سنبقى أسرى الانعكاسات، أم نصنع صورةً جديدة تستحق أن تُرى؟
الجواب ليس في المرآة، بل في العين التي تنظر إليها.