انشغلنا ببهرجة الغرب وملذّاته!!
تبدو المنطقة العربية اليوم كأرضٍ أنهكتها الدوائر، تدور منذ قرنٍ في فلكٍ واحدٍ من العجز والتيه، أما اليمن، فهي تحتاج إلى مجلداتٍ لتوصيف كوارثها المتراكمة. أرضٌ طاردة لأبنائها قبل أن يطردها العالم من ذاكرته الحضارية والمعرفية.
فمن الاستعمار البريطاني لم نتعلّم النظام ولا معنى الدولة، ومن الاشتراكية والرأسمالية لم نحصد سوى شعاراتٍ خاويةٍ وأوهامًا عابرة. ومن صراع المعسكرين لم نغتنم سوى الحيرة، ومن انهيار أحدهما لم ننل إلا الفراغ والخذلان.
جاءت العولمة فزادت تبعيتنا، وجاء الانفتاح فأنجب شتاتًا وضياعًا. حتى ثرواتنا التي كان يمكن أن تبني أممًا، بدّدناها في الاستهلاك والفساد وسوء الإدارة.
أما الانفجار السكاني، الذي كان يُفترض أن يكون طاقةً بشريةً واعدة، فقد تحوّل إلى عبءٍ خانقٍ يثقل الأرض والإنسان.
ثم هبّت رياح "الربيع العربي" لتخلّف وراءها عواصف من الدمار والانقسام والتراجع. سبعون عامًا والعرب يدورون في الحلقة ذاتها، يعيدون الأخطاء نفسها حتى أنهكهم الدوران.
أصبحت مجتمعاتنا على هامش التاريخ، وأضحى أبناؤنا يطاردون لقمة العيش بدل أن يسعوا نحو آفاق العلم والمعرفة.
حين وطئت قدماي ألمانيا قبل عقود، كانت الجامعات تضجّ بالطلبة العرب الذين حملوا أحلام النهضة والتجديد. لم يكن حضور الطلبة من الهند أو الصين أو باكستان لافتًا آنذاك.
أما اليوم، فقد انقلب المشهد رأسًا على عقب؛ فمدرجات الجامعات الغربية تمتلئ بأبناء تلك الأمم الصاعدة، بينما تلاشى الحضور العربي حتى كاد يُمحى.
من عاد من اليابان أو الصين او الهند او البرازيل او كوريا أو باكستان بنى نهضة في وطنه، أما نحن العرب فقد أنشأنا في الغربة حياةً استهلاكيةً خاوية، وانشغلنا ببهرجة الغرب وملذّاته، تاركين أوطاننا فريسةً للجمود والتراجع.
اليوم في الشركات الغربية تغيّرت الوجوه واللهجات؛ أبناء الهند والصين وإيران في الصفوف الأولى، يبنون الجسور ويتركون بصماتهم في كل ميدان، بينما العرب ما زالوا غارقين في جدالاتٍ عقيمةٍ حول الماضي لأنهم عجزوا عن كتابة فصلٍ من المستقبل.
واليوم للمفارقة! ترى عربيًا، وربما يمنيًا، في أقصى الغرب أو في الإكوادور أو قلب أوروبا، ما زال يحمل انتماءً لجماعةٍ سياسيةٍ أو حزبٍ كان سببًا في خراب بلاده وتشرذمها، وجعله مغتربًا عن وطنه وإنسانيته. وهنا تطرح السؤال: أهي جينات أم لعنة؟
فنحن، بدل أن ننقل من الغرب منظومة العلم والنظام والشفافية، نجد أنفسنا نعيش بلا معالم، تائهين بين خطابات الماضي واستعراض المظاهر.
وحين يعود بعضهم إلى وطنه زائرًا، يتحوّل إلى "شيخ" أو "زعيم" يرافقه المديح والحراسة والفخامة الخادعة. إنه خلل عميق في وعينا الجمعي وفي فهمنا للحضارة والتقدّم والتعلّم من البشر لا تكرار أخطائهم.
قبل أيام رأيت مواكب المشايخ في "الحُجرية"، فقلت في نفسي: كيف لأرضٍ كانت قبل خمسين عامًا منبعًا للعقول والنخب والفكر المدني، لا يضاهيها في الجزيرة العربية أحد في الوعي والتحرّر، أن تعود اليوم إلى عباءة القبيلة والمشيخة وضيق الأفق وانتشار السلاح؟
لقد انكسر القلم، واندثر صوت المنهج، وغابت الكلمة عن ساحات الحياة. في طفولتي، قبل خمسةٍ وأربعين عامًا، كنت أسمع في قريتي "بني حمّاد" نقاشاتٍ عن الاشتراكية والامبرالية والناصرية والبعث والماركسية وحركات التحرّر، وأحاديث عن من سافر ليتعلّم في الخارج ليصبح طبيبًا أو مهندسًا.
لذلك لم يكن مستغربًا أن تخرُج من القرية الواحدة مجموعة من الأطباء والمثقفين. أما اليوم، فلا صوت يعلو فوق ضجيج الجهل والفراغ.
حدثني صديق من تلك المنطقة مازحًا فقال "تصدق أن أمي قرأت لتولستوي في بداية السبعينات" امرأة ريفية يمنية من قرى "الحُجرية" قرأت لتولستوي.
كانت الحُجرية آنذاك تضم أول مدرسة لتعليم النساء في اليمن ، وربما في الجزيرة العربية قبل الثورة اي في منتصف القرن السابق.
إن صحّ قوله، فهي بحقّ كانت تضيء بقراءتها وعيًا في زمنٍ كان فيه الإنسان البسيط شريكًا في صناعة الثقافة.
واليوم انطفأ ذلك الوميض؛ وميض القراءة والعقل والنقاش، لتحلّ مكانه مظاهر السطحية والمشيخة وضيق الأفق والزعامات الفارغة وهم لايمتلكون إلا سلات غذاء من كفيلهم.
اليوم لا نريد أن نقول للعالم بينما أنتم تدشّنون الثورة الصناعية الخامسة، نحن نُدشّن القبيلة ونحتفي بالعودة إلى العصور المظلمة. لم يُدرك أحد بعد أنّ طلابنا في اليمن يعيشون فراغًا معرفيًا مميتًا؛ تعليم بلا رؤية، وانغلاق بلا جسور نحو التطوير.
نرفع الشعارات ونقيم المهرجانات في قضايا عبثية، بينما يسير العالم بخطى واثقة نحو المستقبل، ونحن ما زلنا ندور في فلك الأمس بين جهلٍ قديمٍ وضياعٍ جديد.
واخيرا، الصورة تكفي لتقول هذا هو الفشل نعيشه كنتيجة لمن هم في المشهد السياسي اليمني.