لماذا ينهار اليمن من الداخل؟
لم يكن انهيار اليمن حدثًا مفاجئًا، ولا مجرد نتيجة لحرب عابرة أو صراع سياسي محدود، بل كان مسارًا طويلًا تحت السطح، تتآكل فيه طبقات الوعي ببطء، كما يتآكل الجبل من داخله قبل أن ينهار دفعة واحدة.
إن ما أصاب اليمن ليس عطبًا في السياسة وحدها، بل هو جرح أعمق بكثير، يمتد إلى طرق تفكير الناس، وإلى منظومة القيم، وإلى الطريقة التي صيغ بها الإنسان ذاته عبر عقود من التجهيل والإقصاء والانقسام.
فالجهل لم يكن قلة علم فحسب، بل كان مشروعًا مُحكمًا، أُدير بمهارة ليصبح جزءًا من تكوين المجتمع.
جهلٌ مدروس يخلق شعبًا يمكن التحكم فيه بسهولة، يَصدّق ويطيع قبل أن يسأل، وينحاز قبل أن يفهم.
لم تكن المشكلة في أن الناس لا يعرفون، بل في أنهم مُنِعوا من أن يعرفوا. تمّ تجفيف منابع السؤال، وإغلاق منافذ الضوء، حتى صار التفكير جريمة غير معلنة، وصارت الطاعة فضيلة تُكافأ، والاعتراضُ خطيئة تُعاقَب ولو بصمتٍ بارد.
إن الاستبداد، بطبيعته، لا يخاف الجيوش ولا الحشود، بل يخاف فردًا واحدًا يبدأ بالسؤال. ولذلك كانت معركة الأنظمة الفاسدة في اليمن — وفي غير اليمن — معركة ضد الوعي، لا ضد الخصوم.
فالجيوش تُهزم، والخصوم يتبدلون، أما الوعي إذا اشتعل فإنه يشعل أمة بأكملها. لهذا كان الجهل هو السور الأول الذي أُحيط به المجتمع اليمني، سورًا يمنع العقل من أن يرى أبعد من حدود القرية والطائفة والقبيلة.
وحين تضعف الدولة، تقوى الهويات الصغيرة. يصبح الانتماء المناطقي والقبلي بديلًا عن الانتماء للوطن، ويُقاس الإنسان بلهجته ومن أين جاء، لا بما يحمل من قيم أو قدرات.
إن المناطقية ليست شعورًا بريئًا بالاختلاف، بل سلاحًا جاهزًا للاستعمال، يكفيه شرارة صغيرة ليلتهم مجتمعًا كاملًا.
وهكذا تحوّل اليمن إلى فسيفساء متباعدة، كل قطعة فيها ترفض أن ترى الأخرى جزءًا منها، وكل جماعة تعتقد أن الخلاص لا يكون إلا عبر تأكيد اختلافها وتمجيد ذاتها.
وحين ينسى أبناء الوطن أنهم أجزاء من كلٍّ أكبر، يبدأ الوطن ذاته في التصدع.
وإلى جانب الانقسام المناطقي، نشأت طبقية صامتة تهيمن على المشهد. طبقية لا ترتبط بالثروة وحدها، بل بالمولد والانتماء وتراتبية اجتماعية متجذّرة.
يولد الإنسان في اليمن وفي عنقه حكمٌ مسبق عليه: هذا يصلح لأن يكون سيدًا، وهذا قدَرُه أن يظلّ تابعًا، مهما امتلك من علم أو اجتهاد.
تُمحى الكرامة قبل أن تتكوّن، ويُغرس في صدور الشباب شعور بأن سقفهم منخفض مهما حاولوا الارتفاع.
وتلك أكبر خيانة يمكن أن ترتكبها أمة بحق أبنائها: أن تُقنعهم أن أحلامهم ليست لهم، وأن الطريق الذي أمامهم مسدود أصلاً.
تحت هذه الطبقات الثلاث — الجهل، المناطقية، والطبقية — أصبح الإنسان اليمني كائنًا مُنهكًا، مسلوبًا من أدوات الوعي، مقطّعًا إلى انتماءات صغيرة، ومُحاصرًا بإحساس دائم بالعجز.
وعندما يفقد الفرد القدرة على تفسير واقعه، يفقد تدريجيًا القدرة على تغييره. فيتحول الوطن إلى جسد يجرّ أقدامه، ويتنفس بصعوبة، وينهار من الداخل قبل أن تصيبه أي يد من الخارج.
ولكن السؤال الأخطر هو: من المسؤول؟ تكاد الأصابع تتجه في الاتجاه كله؛ فالحكام الذين صنعوا الجهل عمدًا يتحملون الجزء الأكبر، لكن النخب التي صمتت أو ساومت أو انسحبت تتحمل نصيبها أيضًا.
والفرد العادي الذي رأى الظلم وسكت، أو رأى الانقسام فاحتمى بقبيلته، أو رأى القبح واعتاد عليه، يحمل جزءًا من الذنب، وإن لم يشارك في صناعته.
ليست المسألة مسألة إدانة، بل إدراك: إدراك أن الخلل موزَّع، وأن الإصلاح لا يمكن أن يبدأ ما لم يعترف كل طرف بدوره في هذا السقوط البطيء.
ومع ذلك، فإن الطريق إلى الخلاص ليس معقدًا كما يبدو.
يبدأ من مكان واحد: الوعي. حين يفهم الإنسان اليمني أنه ليس تابعًا لجهة، ولا عبدًا لتراث قاسٍ، ولا رقمًا في طبقة اجتماعية مغلقة، بل مواطنًا كامل القيمة؛ عندها فقط يبدأ التغيير.
يبدأ حين يرى أن الانتماءات الصغيرة لا تلغي الانتماء الأكبر، وأن القبيلة ليست بديلاً عن الدولة، وأن الكرامة ليست منحة يمنحها أحد، بل حقّ يولد مع الإنسان.
فاليمن لن ينهض لأن السياسيين يريدون، ولا لأن العالم يشفق، بل حين ينهض الإنسان اليمني في داخله أولًا. حين يقرر أن المعرفة ضرورة، وأن العدالة حق، وأن الوحدة ليست شعارًا بل مصيرًا.
وحينها، سيستعيد الوطن لونه الأول، ونقاءه الأول، واسمه الذي وُلد به: اليمن السعيد. ليس لأن الظروف ستمنحه السعادة، بل لأنه سيصنعها بنفسه.