Logo

لعنة الانهيار: حتمية سقوط العرب

 لقد وُلِدت تساؤلاتي الكبرى في زمن الشقاق، يوم كانت أذني ترتشف من مونتيكارلو وبي بي سي أخبار حرب اليمن عام 1994م، تلك الشرارة الأولى لليقين بأن الأخ مستعد لقتل أخيه بدم بارد. 

ومنذ ذلك اليوم، لم أعد أرى التاريخ العربي إلا سلسلة متصلة من مسيرات التفكيك الذاتي. لم يكن سقوط بغداد، ولا ثورات تونس ومصر وسوريا ولبنان وليبيا والسودان واليمن، مجرد أحداث عابرة، بل كانت فصولاً في وثيقة واحدة عنوانها: الخذلان العربي المُشرعن.

الاستنتاج الحتمي الذي يراه الشاهد على هذه النكبات هو أننا شعوب مريضة ومُرتهنة.

 فالحديث النبوي الشريف: "الناس على دين ملوكهم" أصبح تعويذةً مُستسلمة على صدورنا؛ إقراراً بأن الرئيس أو الملك يعمل ما يريد، لا يخاف مساءلة من شعبه، لأن الشعب قد تخلى عن حق المساءلة مقابل فتات من الأمن الزائف أو الريع الهش. 

هذا السُقم العميق أفرز علة العصر: الأنانية القاتلة. لقد نسينا تعاليم ديننا التي تأمرنا أن نكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.

لقد تحول فخرنا القومي من الانتماء إلى الأمة، إلى عزلة قبلية مقيتة. فـ"يمني وافتخر" و"سعودي وافتخر" و"إماراتي وافتخر" و"قطري وافتخر" و"مصري وافتخر" و"أردني وافتخر" و"مغربي وافتخر" لم تعد عبارات هوية، بل صارت جداراً إسمنتيًا فصلنا عن إخوتنا. 

ولولا هذا الجدار الوهمي لما تركنا أطفالاً في محيطنا يموتون جوعاً وقصفاً ودماراً، ولما تركنا الشعب العربي الأحوازي يعاني أقسى ويلات العذاب والتنكيل والتغيير الديموغرافي على يد الفرس، في صمت عربي لا يليق إلا بالأموات. 

إن هذا التجاهل المريع هو دليل على أن مرضنا لم يعد سياسياً فقط، بل هو نزع للرحمة الإنسانية والدينية.

ولأن لعنة الانهيار لا تتوقف عند حدود ما سقط، ها نحن نرى اليوم حضرموت تعيش مخاض التفكك ذاته: صراع نفوذ، جيوش متنازعة، وتمويلات خارجية، وأجندات عربية تتعامل مع المحافظة وكأنها غنيمة تُقسَّم لا جزء من وطن يبحث عن تنفسه الأخير. 

ما يحصل هناك ليس خلافًا محليًا بريئًا، بل هو نتاج “هندسة الفوضى” التي تمارسها أيادٍ عربية سخّرت المال لتجريف الهوية وإعادة تشكيل الجغرافيا على مقاس مصالحها. 

حضرموت التي كانت رمزًا للاتزان، تُدفع اليوم دفعًا نحو صراع طويل، وكأن القدر يعيد إنتاج مأساة عدن وصنعاء وتعز ولكن بملامح أكثر خداعًا ونعومة في ظاهرها، أشد تدميرًا في باطنها.

وفي السودان، تتجلى الكارثة في أوضح صورها. بلد كان يمكن أن يكون سلة غذاء العالم العربي، تحوّل إلى ساحة حرب طاحنة بين إخوة الدم، 

حرب غذّتها الأموال العربية التي وجدت في الخراب استثمارًا، وفي الدماء ترخيصًا لإعادة رسم النفوذ. الخرطوم التي سقطت،

 ودارفور التي تُباد، والولايات التي تُهجّر جماعاتها، ليست نتائج صراع داخلي فحسب، بل هي شاهد على أن المال العربي حين يتحول إلى أداة تخريب يصبح أقوى من رصاص الجيوش. 

ما يحدث في السودان أكبر من حرب محلية؛ إنه مشروع تفكيك شامل تتناوب على صناعته أيادٍ عربية تبحث عن النفوذ ولو فوق الجماجم.

إن التناقض صادم ومؤلم. هذه الأمة التي فتحت العالم، من مشرق آسيا وصولاً إلى فرنسا وسمرقند والقرم وأجزاء من الصين، والتي لم تكن تعرف جوازات السفر ولا الحدود الوهمية، 

هي نفسها اليوم التي أصبح مواطنوها لا يجدون موطئ قدم في بلدان إخوتهم. فما الذي أصابنا؟ أي دعوة حلت بنا؟

لقد تحول الأمر إلى ما يفوق التحليل المنطقي: هل حقاً أصبحنا شعباً مسحوراً؟ هل وُضِع لنا سحر أسود أعمى بصائرنا عن وحدتنا وعن مصالحنا الحقيقية؟

 ربما، وبكل مرارة وتهكم، يجب علينا أن نبحث عن مشايخ يقرأون علينا رُقية شرعية تُبطل هذا السحر الذي جعلنا نرى في خراب أشقائنا أمناً لنا، وفي تفكك محيطنا عافية لكياناتنا. يا لَسخرية التاريخ؛ أمة الفاتحين باتت تحتاج إلى رُقاة كي تستفيق من غفلتها!

في خضم هذا التيه، تستمر مسيرة الذوبان الحتمي، التي قادها الارتماء في أحضان الراعي الخارجي. 

إن بعض دول الخليج، التي كانت لها اليد الطولى في تمويل وقيادة هذا الخراب في العراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان واليمن، تنام اليوم على وهم أن “عصبية الحماية الغربية” أبديّة. ولكننا نعود إلى الدرس القاسي، إلى آية الانهيار في تاريخنا المعاصر:

 سقوط جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. كانت أقوى قوة عسكرية في الجزيرة، مربوطة عضوياً بالاتحاد السوفيتي. 

وعندما سقط الراعي، لم تسقط وحدها، بل ذابت تماماً، وتحول جيشها إلى عجز، وارتدت إلى الشمال طالبة الوحدة هرباً من إفلاسها وتلاشي عصبية سلطتها.

كيف سننتهي؟ وكيف سنذوب؟ عندما ينهار “حائط الظل” الغربي، سواء لصالح صعود الصين المنتجة أو انتقام روسيا المُنهكة، ستجد الدول التي رهنت سيادتها للغرب نفسها بلا غطاء. 

سيسقط سقف الحماية، وستنكشف الهشاشة الهيكلية التي غلفها المال. سيعود التشظي الروحي والعصبيات الفرعية لتقضم الكيانات من الداخل، 

كما نرى في المغرب والجزائر، وهما شعب واحد ممزق بسبب تبعية حكامه، لتتكرر مأساة اليمن اليوم في عواصم الريع. 

وفي مواجهة المحيط العربي المُستنزف والكاره الذي شاركت في تدميره، لن تجد هذه الدول أي رصيد يدعمها. إن التناحر الإقليمي الذي بدأ بخراب العراق وسوريا واليمن والسودان سينتهي بالعواصم المُحرضة ذاتها.

إننا نسير في مسيرة الذوبان الحتمي لأننا فقدنا جوهر القوة: العدل الداخلي، والوحدة الإقليمية، والإرادة الذاتية. 

ومن يظن أنه سيشتري مصيره بالمال والحماية، فلينظر إلى رماد الجنوب اليمني الذي ذاب في لحظة واحدة. إنها دعوة حلت بنا؛ دعوة العاجز والضعيف والمخذول، وستستجاب هذه الدعوة في يوم لا محالة.