Logo

الأزمة اليمنية والرهان على الخارج

 تدفع العلاقة الترابطية بين المحلي والإقليمي على مستوى الديناميكيات وأدوار الفاعلين إلى ارتهان الأزمات السياسية المحلية بواقع متغيّر، ومن ثم تعطيل فرص استعادة القرار الوطني. 

وفي الحالة اليمنية، أفضت تلك التشابكات إلى ربط مسار الأزمة السياسية بأولويات الحلفاء، بما في ذلك تحوّل الوكلاء إلى الهامش السياسي، إذ قد يضفي تغير استراتيجية الفاعلين في الوقت الحالي مزيداً من التعقيد على فرص الحل السياسي على المدى المنظور.

إلى حد كبير، تخضع التدخلات الدبلوماسية في حل الأزمات السياسية لمعيارية أحادية، تتمثل بتقاطعات المصالح الفاعلين الدوليين والإقليميين، سواء من حيث المكاسب أو مستويات المخاطر، أي تؤدّي هذه الأزمات إلى تصعيد التوترات الجيوسياسية،

 وبالتالي الإضرار بمصالحها. ومع أن الموقع الجغرافي لليمن الدولة تطلّ على باب المندب، وأيضاً دور الوكلاء في معادلة الصراع على النفوذ الإقليمي، ظل أحد أسباب التدخلات الدبلوماسية في السنوات السابقة، 

فإن تحولات ما بعد وقف الحرب في غزّة، على مستوى التحالفات وتغيّر خريطة النفوذ، فرضت نفسها في التعاطي مع الأزمة اليمنية، إذ إنه ومع تصاعد أزمات سياسية أكثر أولوية بالنسبة للفاعلين، باتت أهمية الأزمة اليمنية تنحصر في أنها ورقة ضغط غير مباشرة في إدارة ملفات استراتيجية وأمنية في المنطقة،

 ففي مقابل الإدارة الأميركية التي تقارب الملف اليمني بوصفها جزءاً من تدابيرها الأمنية، وبمعزل عن أي إمكانية لتنشيط دبلوماسية مصاحبة لحل الأزمة اليمنية، تتموضع السعودية، وأيضاً إيران، في إدارة الملف تبعا لتحولات علاقتهما وأولوياتهما في هذه المرحلة، والتي تتجاوز في أي حال موقع وكلائهما في معادلة الصراع المحلي، وأيضاً أدوارهم السياسية.

تتبلور اتجاهات الاستراتيجية الأميركية في مرحلة ما بعد وقف الحرب في غزّة بتبنّي سياسة احتوائية في إدارة الأزمات، والأهم استمرار تحييد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عاملاً في تصعيد التوترات الجيوسياسية، إلى جانب منح حليفها الإسرائيلي اليد الطولى في إدارة المعادلة الأمنية في المنطقة ولصالحه، 

مقابل تركيز أولوياتها في مواجهة إيران وتقويض إمكانية تطوير قدرتها العسكرية، والأهم برنامجها النووي. وإذا كانت المقاربة الأميركية التقليدية للملف اليمني قد حصرته في المعطى الأمني من حيث تهديد مصالحها ومصالح حلفائها وشركائها في المنطقة، فإن طبيعة التحالف ما بين جماعة الحوثي وإيران ونتائجها لم تؤدّ فقط إلى ربط الملف اليمني بالملف الإيراني، بل تحوّله إلى الهامش، 

بحيث خضع للاستراتيجية الأميركية في التعاطي مع إيران، بما في ذلك صراعها مع إسرائيل مستقبلاً، ودور وكلاء إيران في هذه المعادلة.

ومن جهة ثانية، وعلى الرغم من أن وقف الحرب في غزّة أدّى إلى وقف الجماعة هجماتها على الملاحة الدولية، وانكفائها عسكرياً، فإن بقاءها قوة تهديد محتمل، 

والأهم استمرار اليمن جغرافية لنفوذ إيران يجعل الإدارة الأميركية تقارب الملف اليمني بمنظور استراتيجيتها حيال إيران، وأيضا مع كيفية إدارة وكلائها في المرحلة المقبلة. 

ومع أن مواجهة تهديدات وكلاء إيران، بما في ذلك الجماعة، تخضع عموماً للمقاربة الإسرائيلية، أي استمرارية الخيار العسكري للردع، وتأمين الجبهات المحاذية الأراضي المحتلة، فإن حرص الإدارة الأميركية على إشراك الحكومات في استراتيجية تعطيل القدرة العسكرية لوكلاء إيران، 

أي الضغط عليها لنزع سلاحها من حزب الله في لبنان إلى الفصائل الشيعية في العراق، يجعل من هذه الاستراتيجية غير ممكنة التطبيق في الحالة اليمنية، لصعوبة نزع سلاح الجماعة، 

وأيضاً تعقيدات الوضع اليمني، بحيث يجعل الإدارة الأميركية تراهن على وسائلها التقليدية في إضعاف الجماعة، وتحييد تهديداتها في المستقبل، من تعطيل قنوات إمداداتها العسكرية، إلى استمرار حصارها اقتصاديا، الأمر الذي يحصر أهمية الملف اليمني بالنسبة للإدارة الأميركية باعتباره ورقة ضغط غير مباشرة على إيران، من خلال تحجيم وكيلها،

 ما يعني تقويض فرص حل الأزمة اليمنية أسوة بالأزمات الأخرى في المنطقة، وبقاء اليمن ساحة نشطة لإدارة تحولات علاقتها مع إيران.
 
إلى ذلك، أفضت تحولات المعادلة الإقليمية لما بعد وقف الحرب في غزّة إلى تغيير خريطة نفوذ الفاعلين الإقليميين، 

وبالتالي تغيير مراكزهم، وأيضا أدوارهم، بما في ذلك العلاقة بين المتنافسين، فعلى مستوى هرمي، أدّى تآكل نفوذ إيران وضرب وكلائها إلى مضاعفة نفوذ السعودية، التي باتت تشغل مساحات نفوذ منافسها الإيراني من سورية إلى لبنان، 

كما أن علاقتها الإستراتيجية بحليفها الأميركي، والتي انتقلت، في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب، إلى مستوى نوعي، حوّلت السعودية إلى لاعب رئيس في إدارة التوازنات في المنطقة، 

إضافة إلى تبنّي السعودية دبلوماسية مرنة ونشطة فرضها طرفاً إقليمياً في حل الأزمات، وأيضا وسيطاً سياسيّاً لخفض التوترات، ما يعني تغيير أدوار القوة والنفوذ لصالح السعودية.

 وإذا كان التفوّق العسكري والنووي لإيران قد ظلّ سنوات العامل الحاسم في انكشافها أمنياً مقابل ايران، بما في ذلك تعرّضها لهجمات من وكلائها، جماعة الحوثي، 

فإن توجّه السعودية أخيراً إلى تحسين الشروط الأمنية، يعني تقييد المخاطر التي قد تطاول عمقها، من ترتيب شراكة أمنية مع باكستان، والاستفادة من قدرتها النووية إلى الدفع بشراكتها العسكرية والأمنية مع حليفها الأميركي إلى تطوير قدرتها الدفاعية.

 يضاف إلى ذلك، أن القوة الاقتصادية للسعودية، بوصفها دولة منتجة للنفط، الى جانب علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية، تمكّنها، على المدى البعيد، من مراكمة نفوذها الإقليمي والدولي.

ومن جهة أخرى، وهذا الأهم، ترتّبت على التحوّلات الإقليمية الحالية التي حسمت هيمنة السعودية مقابل تحجيم نفوذ إيران واضعافها عسكرياً وسياسياً تحوّل في العلاقة لصالح السعودية، 

إلى جانب مفاعيل علاقتها الإستراتيجية مع حليفها الأميركي، والتي قد تتيح لها لعب دور في ملفات أمنية في المنطقة، وتحديدا الملف النووي الإيراني،

 إذ إن كمون دور عُمان في هذه المرحلة، وسيطاً بين أميركا وايران، قد يجعل من السعودية الطرف الإقليمي المرشّح لتحريك هذا الملف، 

ومن ثم تحوّلها بالنسبة لإيران إلى خيار مثالي لتجنّب مخاطر تصاعد التوترات بينها وبين أميركا، خصوصاً مع تضاعف تهديدات إسرائيل باستهدافها عسكرياً. 

وبالتالي، أثّرت هذه المتغيّرات في سياق العلاقة بينها وبين إيران، كما يبدو، على إدارة السعودية الملف اليمني،

 فإضافة الى تحوّله، في الوقت الحالي، إلى الهامش السياسي، أي غياب أي أولوية لتحريكه، تنعكس هذه المتغيرات على جماعة الحوثي وكيلاً لإيران، لا من حيث موقعها في السلطة، بل فقدانها زمام المبادرة والإمكانية أيضا لتهديد السعودية.
 
في المقابل، ظل الملف اليمني بالنسبة لإيران سنوات ورقة رابحة للضغط على خصومها ومنافسيها، وأيضا جزءاً من معادلة ترسيم نفوذها الإقليمي، من خلال استثمار مفاعيل القوة العسكرية لجماعة الحوثي، سواء في الصراع المحلي أو في المعادلة الإقليمية. 

وإذ كانت الجماعة نجت من مصير وكلاء ايران في جبهات الإسناد، أي اجتثاثها عسكرياً، بما في ذلك صعوبة نزع سلاحها، فإن تحدّيات داخلية وخارجية تؤثر على إدارة إيران الملف اليمني في هذه المرحلة، بما في ذلك مستقبل علاقتها بوكيلها، 

فإلى جانب حالة الإنهاك الاقتصادي التي تواجهها السلطة الإيرانية، جرّاء ضغط العقوبات الاقتصادية ومخاطر تصعيد الاحتجاجات الشعبية، بحيث يجعلها تركّز مواردها لمواجهة أولوياتها الداخلية، 

ومن ثم يقلص ذلك من إمكانية دعم الجماعة التي تواجه، هي الأخرى، ضغوطاً اقتصادية خانقة. 

كما أن تحدّيات علاقتها بالإدارة الأميركية في الوقت الحالي، بما يخص برنامجها النووي، خصوصاً في ظل استمرار الضغوط الدبلوماسية، تجعلها تتبنّى سياسة انكفائية في التعاطي مع مستقبل وكلائها، من حيث تنمية مواردهم العسكرية.

 كما أن مخاطر شن إسرائيل حرباً جديدة تستهدف ما تبقى من منشآت إيران النووية تجعلها (إيران) تلجأ إلى سياسة واقعية للتعاطي مع هذه التحدّيات بما هي أولوية على حساب أي ملفات أخرى،

 كما أن التحوّل في علاقتها مع السعودية، على المستوى الإقليمي من حيث القوة والنفوذ، ترتّب عليه ضعف تأثيرها على الملف اليمني، مقابل تحوّل الدور لصالح السعودية، ومن ثم فقدان الملف اليمني مفاعيل الضغط بالنسبة لإيران في ملفاتها التفاوضية.

في المحصلة، حسمت هذه المتغيرات كما يبدو تهميش الأزمة اليمنية، وإن لم تنعكس على الوكلاء نتيجة تغير مراكز القوة بين حلفائهم الإقليميين، 

بيد أن هذا الواقع المتغير لم يدفع الوكلاء الذين باتوا خارج المعادلتين، الإقليمية والدولية، إلى عقد تقاربات بينية تؤدّي إلى حل الصراع اليمني- اليمني واستئناف المسار السياسي، أو على الأقل تطوير آليات مشتركة لمواجهة التحدّيات الإنسانية التي يواجهها اليمنيون، 

بل المضي بمقامرة خاسرة في المراهنة على حلولٍ تأتي من الخارج، وإن عني بذلك تأبيد حالة الاستنقاع السياسي واستدامة واقع الحرب.

* كاتبة وناشطة يمنية