لنرسم خارطة لما يجري ..
الذين يشعرون بالهزيمة داخل اليمن أكثر من الذين يقولون إنهم انتصروا.
يحدث هذا فقط عندما يكون المنتصر طارئاً ودخيلاً. حدث مع صنعاء، ويحدث مع عدن. النصر الذي يخلق كربة وغضباً ليس سوى هزيمة. انهزم الشعب، يمكن قول هذا الأمر بثقة.
كل الذين أعرفهم، الذين أقرأ لهم، الذين تظهر أمامي تدويناتهم – من الشمال والوسط والجنوب- يشعرون بالمصيبة. الحوتي انتصر قبل عقد من الزمن، ولا يزال خائفاً وطارئاً.
الزبيدي انتصر، وسيعيش خائفاً. لا توجد إحصائية واحدة تخبرنا، عملياً وعلمياً، عن مدى قبول الشمال بحكم الحوتي، ولا الجنوب بحكم الزبيدي.
كم الإماميون في الشمال ، وكم هم الانفصاليون في الجنوب؟
الإماميون والانفصاليون مجرّد قوارح، عويلة وبنادق، طالما ونحن لا نملك بيانات علمية ونتعامل مع قوارح.
على عدد كبير من لوحات النعي لقتلى الحرس الثوري الإيراني وحزب الله كُتبت هذه العبارة بطرق مختلفة:
شارك في معارك اليمن. أنصار الله مشروع إيراني، يعلم جماعة عبد الملك أن قائدهم كان – في مخبئه- يتلقى التعليمات والنصائح والخطط من حسن نصر الله.
مثيرٌ أن كبار رجاله لم يشتركوا معه في نقاش مسألة، كانوا فقط يتلقون التوجيهات والخطط. خطط عملياتية من رجل معزول عن كل شيء؟
كان يتلقى، وينقل ما يُملى عليه. لا يمثل أحداً، ولا يناقش حتى أمور جماعته مع رجاله، مطيّة لنفسه ولآخرين.
الانتقالي مثله، هو نصف مشروع، بل أقل، يتلقى ويطيع. ذهب إلى الحديدة لتحرير الشمال، بل ذهب إلى السودان وأماكن أخرى.
صار، حرفياً، إلى شركة أمنية عابرة للحدود. يريد دولة مستقلة ولا يدري ما الذي سيفعله بها ولا بأهلها. ليس في مستوى قيادة دولة، والآبار التي سيضع يده عليها سيسلم ريعها إلى الحوتيين.
سيفعل ذلك، وهو يعلم أن مالكه سيطلب منه الامتثال. لمثل هذه السيناريوهات استعدّ الحوتيون بإطلاق الصواريخ على أميركا وإسرائيل.
أرادوا أن يخبروا "القاصي والداني" أننا مجنون الجزيرة، ولا رادّ لقوارحنا. من في الجزيرة العربية على استعداد لتبادل القوارح مع المجنون؟
إذن، عطه يا عيدروس من الخير، الخير وايد. الارتزاق فنون، والعبودية هي المهنة الثالثة في التاريخ بعد البغاء والارتزاق. التاريخ حاكم.
ماذا جرى للدولة اليمنية؟
يختطف الحوتي الناس في صنعاء إذا رفعوا العلم الوطني في السادس والعشرين من سبتمبر. في الجنوب يختطف الانتقالي الناس إذا رفعوا العلم الوطني.
حتى إنهم، قبل عامين، اقتحموا سكن طارق صالح في عدن وأنزلوا العلم. البلاد التي لا يجرؤ المرء على رفع علمها في صنعاء وعدن هي بلاد مختطفة، مستعمرة.
لا يحدث هذا الأمر سوى مع المستعمرات، ومع البلدان التي بلا صاحب. كأن اليمن كانت أرضاً بلا شعب. ما يجري هو تصفية لليمن نفسها، اليمن كفكرة تاريخية، كحقيقة جغرافية، ومشروع سياسي.
المشاريع المنتصرة هي مشاريع خارجية في الأساس. تريد إيران توسيع المحور "الرسالي". تريد الإمارات توسيع بحارها وشواطئها، إزاحة حدودها إلى أبعد مدى ممكن.
التهمت الجنوب، ببساطة. إيران التهمت الشمال. بالأمس قال نعيم قاسم إن طبطبائي، الرجل الثاني في حزب الله، عاد من اليمن قبل عام، هناك عمل لتسعة أعوام قائداً لجيوش الحوتي، وأشرف على معركة مأرب، وقبلها على تصفية الشريك صالح.
الحوتي في خبائه، ألقى بالبلاد في مشروع الثورة الإسلامية، صار ما تحته من الأرض جزءاً من الجمهورية الإسلامية العلوية. واليمن؟ يحتفل الحوتيون بحوالي 20 عيداً وطنياً في السنة، ليس فيهم عيد واحد يعرفه أهل اليمن، أو يخص تاريخ بلادهم.
لم يصفّ الحوتي الجمهورية اليمنية وحسب، بل اليمن نفسها. جعل منها كياناً نصف إلهي، هيكلاً هاشميّاً يأخذ كل ملامحه من جينات أهل السلاح. على اليمن الحوتي أن يشبه الحوتي لا العكس، أن يتخلى عن كونه يمناً وإلا أغرقوه بالمزيد من الألغام.
الزبيدي في الجنوب والشرق يسرح ويمرح، قائداً بدرجة سبيّة. يريد أن يتأكد أولاً، وقبل كل شيء، أنه تمكن من إخفاء اليمن، انفصل عنها. هذه رغبة المستعمر، وهو طوع البنان.
لا بد من تمزيق الخارطة والتراب، عزل الأرض عن ماضيها وعن أهلها حتى يمكن ابتلاعها. ماذا يعرف الزبيدي عن اليمن؟ يقول إنه من "زبيد التاريخ"،
ربما يعلم أين هي زبيد ولكنه لا يعرف شيئاً عن التاريخ. انتصرت تشكيلاته العسكرية، النصر الذي احتفل به أكَربَ ملايين الناس. تعلم اليمنيون النسيان، وأدركوا خطيئتهم. آفة بلادنا النسيان. ندرك الآن، كلنا، آي آفة هو النسيان.
يمكن للنصر أن يكون كذلك إذا كان يخص شلّة من الناس وحسب. انتصر الحوتي نصراً مماثلاً قبل عقد من الزمن ولا يزال في الجبّ، في المغارة. يقول إنه انتصر باسم أناس يرون في نصره هزيمة لهم. مثل الزبيدي.
الرجلان يصفّيان اليمن، أحدهما يدوس علمها ويحظر استخدام اسمها. الآخر يغطيها بكساء آل البيت. في صنعاء لا ترى سوى السلالة،
ولا تسمع سوى حسيسها. المدارس والجامعات تعلمك شيئاً واحداً: طاعة الهاشميين. واليمن؟ مكان. مجرّد مكان اكتسب هويته من بني هاشم. اليمنيون الذين هزمهم الحوتي كثيرون.
اليمنيون الذين دحرهم الزبيدي كثيرون. انتصر الإيرانيون قبل عقد من الزمان وتباهوا بذلك النصر. قال عمدة طهران آنذاك "العاصمة الرابعة في قبضتنا". اليوم يتحدث مثقفو الإمارات، على قلّتهم، عن انتصار "الجنوب العربي".
ألغوا اليمن كما فعل الفرس قبل عقد من الزمن. اختفى اليمن شمالاً، وها هو يختفي جنوباً. بقي منه بقع صغيرة متناثرة بلا صاحب، يسكنها الإخوان! اذهبوا إليها بالمدفعية، احموا البلاد من الإخوان.
سيموت الزبيدي. سيخلفه زبيدي أكثر تفاهة منه. سيموت عبد الملك. سيخلفه عبد أتفه منه.
سينجب اليمنيون المهزومون ملايين اليمنيين الحاقدين. عمّا قريب – حتى بعد مائة عام- سيأخذ أهل الأرض أرضهم. مكر التاريخ وقوانينه. فإذا كان عدد المنتصرين أقل من عدد المهزومين فالتاريخ سيمضي في الاتجاه الذي نعرفه.
كتبت في الواحد والعشرين من سبتمبر 2014: كنت، وأصحابي، على الجانب الصحيح من التاريخ. الملايين على الجانب الصحيح من التاريخ، وهم غاضبون. إن أعجزتهم الحيلة اليوم فسيجدونها غداً.
بقيت بقعتان من اليمن، تعترفان بيمنيتهما: مدينة تعز ومدينة مأرب. ما بقيت هاتان البقعتان فثمّة خطر على المستعمر والمرتزق. تذكّران باليمن والجمهورية وبالحكاية، تبقيان الجمرة حيّة.
لماذا لا تمحى هاتان المدينتان من الوجود؟ ليختفي الشاهد الأخير، شاهد المقبرة لا شهيد المعركة.
لنبدأ الرحلة الثالثة: هما وكران من أوكار الإخوان.
قال مواطن عربي، من أعراب سوريا، قبل أعوام: إذا سمعت أحدهم يقول إنه سيحميك من الإخوان فاعرفه إنه "بدو ينيچك". ربما تذهب سخرية التاريخ إلى الحد الذي سيفر معه الناس من صنعاء إلى مأرب ومن عدن إلى تعز.
يميّز العصابات المنتصرة عن سواها أنها "لا يمكن توقع أفعالها". يميّزها أيضاً أنها تصلح للبيع، تنتقل من موالاة قوي إلى آخر حتى تجد نفسها في نهاية المطاف إلى جوار الشيطان.
الهزيمة أقوى من النصر الذي أراه. الهزيمة درس، والنصر فخ. الهزيمة الأولى علمتنا ونسينا، الثانية ذكرتنا وخضّتنا، ستأتي الثالثة. لا يزال الناس بحاجة إلى درس ثالث، لا لينهضوا من سباتهم بل لينقلوه إلى الأبناء.
نحن، من نعيش الآن ونرى، لم نعد الجيل الذي سيذهب إلى ما وراء الجبل ويأتي بالأرنب البرّي. سيأتي به التاريخ والأبناء.
تعرفون شيئاً: الصورة التي نراها اليوم كان علينا أن نراها حين قال المداني إنه حول جسد القشيبي إلى "بزابيز". كان القشيبي الحارس الأخير للشعب والدولة.
خرجت صنعاء في جنازته كما لم تفعل من قبل، كان الناس قد أدركوا الجزء الأعلى من الحقيقة لا الحقيقة كلها. كان تأبينا للآتي، للبلاد، وكان واضحاً أن السيل في الطريق، وما من حواجز. وصل السيل، ثم وصل السيل، ثم سيصل السيل.
علينا أن نتوقف عن الحديث عن صالح وهادي والعليمي. فقد وصل السيل. كانت النخبة متعفنة حتى النخاع، وكانت ثورة فبراير محاولة ساذجة لإبعاد النخبة عن المشهد. ساذجة كانت لأنها وهي تحاول إسقاط النظام لم تكن تعرف أنه ما من دولة خلفه ولا تحته.
كان هو كل حيلتنا، لا جمهورية خلفه ولا دولة تحته. انسحبت الثورة بعد عام من العناد، وتقاسمت النخبة المتعفنة القوة والسلطة. ثم واصلت المكر والخداع ضد نفسها، مبيحة لنفسها كل الوسائل.
و"دخل" السيل، دخل مع القشاوش.
ما الذي سيجري غداً؟ كل السيناريوهات معقدة ومركّبة. المؤكد أن الزبيدي لا يعرف ما الذي سيفعله بكل هذا النصر.
لن يعترف له أحد بالاستقلال، فهناك 28 دولة أوروبية تعاني من نوازع انفصالية محليّة، ولو فُـتح باب الاعتراف على المسرح الدولي لحدث زلزال حتى داخل الدول الكبرى. خذ الصين وروسيا وكندا أمثلة.
المستعمر لا يريد دولة مستقلة، يريد كياناً خاضعاً، رجالاً طوع البنان، وخصوماً في خانة الشياطين.
الزبيدي سيطلب من العليمي توفير الرواتب، والحوتي يريد من السعودية أن تدفع رواتب موظفيه وجيشه. المرتزقة لا يعرفون الخجل ولا يبنون الدول، وإذا انتصروا فشلوا وبددوا النصر.
تحت هذه السماء الباردة توجد حقيقة واحدة تقول كل شيء: يبلغ عدد المهزومين أضعاف عدد المنتصرين. يقول دارسو التاريخ: هذه هي المعادلة الذهبية التي، إن توفرت، فإن التاريخ لن يستقر، والحوادث لن تنتهي. وأعقد من ذلك: لا يدومُ الحال.