Logo

اليمن: حين يُهزم الوعي

 لسنا أمام أزمة سياسية طارئة، ولا أمام صراع يمكن اختزاله في خرائط النفوذ وموازين السلاح، بل أمام مأزق وجودي كامل، تتعطل فيه أدوات الإدراك قبل أن تتعطل أدوات الفعل. 

ما يحدث في اليمن هو لحظة انكسار عميقة في وعي الإنسان، حين يفقد قدرته على التمييز بين القوة وحاملها، وبين الفعل ومن يحرّكه، وبين العدو الحقيقي والعدو المصنوع.

لقد ترسّخ في وجدان هذا الشعب نوع من السحر الأسود، لا بوصفه فعلًا غيبيًا، بل كحالة ذهنية مكتملة، يُشلّ فيها السؤال، ويُستبدل المنطق بالتلقين، وتتحول الهوية من جذور راسخة إلى وظيفة مؤقتة، ومن انتماء طبيعي إلى شعار قابل للتبديل.

 في هذه الحالة، لا يعود الإنسان ضحية القهر وحده، بل شريكًا غير واعٍ في استمراره.

ما نراه على السطح من قوى مسلحة متصارعة لا يمثل جوهر الأزمة، بل عرضها الأكثر ضجيجًا. هذه التكوينات، مهما اختلفت شعاراتها، لا تحمل قوة ذاتية نابعة من المجتمع، بل تؤدي دورًا وظيفيًا خالصًا.

 تبدو كآلات ضخمة، مرعبة في مظهرها، لكنها في حقيقتها أدوات صماء، لا تتحرك إلا بإشارة من خارجها، ولا تعرف لماذا تهدم بقدر ما تعرف كيف تنفذ.

العنف هنا لا يعكس إرادة وطنية، بل قرارًا مُسبقًا، والإمداد هو ما يمنحه القدرة على الاستمرار. 

لذلك، فإن الخطر الحقيقي لا يكمن في هذه الأذرع، بل في العقول التي تصنع لها المعنى، وتحدد لها اتجاه الصدام، وتعيد تدوير الصراع بما يخدم مصالح بعيدة عن الإنسان والجغرافيا. 

حين نخلع عن هذه التكوينات صفة القيادة، فنحن لا نمارس إدانة أخلاقية فقط، بل نعيد الأمور إلى موضعها التحليلي الصحيح.

أخطر لحظة يمر بها مجتمع مأزوم هي لحظة بحثه المحموم عن منقذ خارجي. في تلك اللحظة، يتنازل العقل عن حقه في الشك، وتُعلّق الإرادة على وعود لا تملك ضماناتها. 

هكذا تعامل اليمنيون مع أزمتهم؛ كما يُعامل الممسوس مرضه، بحثوا عن راقٍ يعيد التوازن، لا عن تشخيص يعيد الفهم.

غير أن المأساة لم تكن في طلب العون بحد ذاته، بل في تسليم الوعي. فالراقي الذي أُنيطت به مهمة العلاج، تحوّل إلى مشعوذ، لا يعالج الخلل بل يعيد إنتاجه، عبر تفكيك النسيج الاجتماعي، وإعادة تشكيل الولاءات، وتحويل الفوضى إلى نظام تابع. 

لم يعد الألم نتيجة الحرب وحدها، بل نتيجة الخديعة، خديعة النجدة التي انتهت إلى إدارة الانقسام بدل إنهائه، واستثمار النزيف بدل إيقافه.

لكن السحر الأعمق لم يُمارَس بالسلاح وحده، بل على الذاكرة. حين يُعاد تعريف الإنسان خارج تاريخه، ويُطلب منه أن ينتمي إلى تسميات بلا جذور، يصبح مستعدًا لأن يعادي أقرب الناس إليه، ويصالح من صادر أرضه وقراره. 

هنا يفقد الغضب بوصلته، ويتحول الداخل إلى ساحة تصفية، بينما يُحصَّن الخارج من أي مساءلة.

في هذه اللحظة، لا يعود الشقيق شريكًا في المصير، بل خصمًا، ولا يعود الجلاد عدوًا، بل حليفًا مؤقتًا. 

هذا الفصام الوطني ليس خطأً أخلاقيًا فرديًا، بل نتيجة مباشرة لوعي أُعيد تشكيله تحت الضغط والخوف والدعاية، حتى فقد قدرته على الربط بين السبب والنتيجة، وبين الجرح ومن أحدثه.

وفي مقابل هذا التشظي، يظهر شكل آخر من السحر، أكثر هدوءًا وأشد فتكًا: سحر التبلد. حيث يتعايش الإنسان مع الإذلال بوصفه قدرًا، ويستبدل الفعل بالتبرير، والمقاومة بالتكيف، والألم بالإنكار. هنا لا يكون الصمت حيادًا، بل آلية دفاع نفسي، تُخدَّر بها الروح كي لا تنهار.

غير أن هذا التكيف، مهما طال، لا يصنعه نجاة، بل يؤجل الانفجار أو يضمن تحلل المجتمع ببطء. فالسكوت لا يميت القهر، بل يجعله جزءًا من الحياة اليومية، ويحوّل الاستثناء إلى قاعدة، والكارثة إلى روتين.

فكّ السحر لا يبدأ بإسقاط الأدوات، بل بتعرية المُحرّك. لا يبدأ بالصراخ، بل باستعادة القدرة على التفكير المستقل، وإعادة تعريف الانتماء خارج الاصطفافات المصطنعة. 

يبدأ حين يدرك الإنسان أن الوعي فعل مقاومة، وأن الهوية ليست سلاحًا في يد أحد، بل مساحة جامعة تحمي الجميع.

وإلا، فإن الخطر الأكبر لا يكمن في خسارة معركة أو ضياع جولة، بل في أن نتحول إلى بقايا تاريخ، تُروى حكايتنا بوصفها مثالًا على أمة أُصيبت بالوهم، حتى نسيت كيف تُدافع عن وجودها.