Logo

اليمن…ضبط علاقة السهل والجبل

 ينظر كثير من الدارسين للتاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي اليمني على أنه تاريخ العلاقة بين الجبل والسهل، أو تاريخ التواصل بين مكونات الجغرافيا، في بلاد أدى تعقيد خريطتها الجغرافية إلى تعقيد خرائطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحكم بروز الجيوبوليتيكيا عاملاً مؤثراً قوياً في مراحل التاريخ اليمني القديم والحديث.
في الماضي القديم كانت السهول اليمنية من سواحل ومناطق جنوبية وشرقية هي مراكز السلطة والسيطرة، حيث قامت دول قوية مثل معين وسبأ وحضرموت وقتبان، وكلها دول كانت عواصمها في المناطق السهلية الممتدة باتجاه السواحل الجنوبية والشرقية، مع أنها دول توسعت لتشمل أقاليم واسعة في اليمن والجزيرة العربية في العصور القديمة، 
وكانت تلك الدول قائمة على فكرة جوهرية هي فكرة «التحالفات القبلية» القائمة أساساً على المصالح المشتركة بين قبائل البلاد المختلفة التي وردت تسميتها في النقوش القديمة باسم «شعوب»، وهي فكرة «اتحادية» بامتياز.
ومع تدفق القرون طرأت عدة عوامل سياسية واقتصادية أدت إلى اضمحلال الدولة السهلية اليمنية، مثل فقدان السيطرة على طرق التجارة البحرية، والغزوات الداخلية والخارجية التي أدت إلى ضعف الدولة الأشهر، وهي دولة سبأ،
 الأمر الذي أدى إلى قيام حركات تمرد داخل إطار «شعب سبأ»، هذه التمرد الذي خرج منه جزء من السبئيين – وهم الحميريون – منتصرين، وقد اختار الحميريون مدينة «ظفار» في الجبل لتكون مركزاً لدولتهم الجديدة، بعيداً عن الاستهداف، ثم توسعوا عسكرياً، ليضموا الجغرافيا اليمنية كلها، مع أجزاء من الجزيرة العربية.
بعد الإسلام كان اليمن جزءًا من دولة الخلافة الراشدة، ثم الدولة الأموية، ثم العباسية، إلى أن استقل الزياديون بحكم اليمن، مع بداية القرن التاسع الميلادي، وأسسوا عاصمتم زبيد في السهول التهامية غرباً، قبل أن يسيطروا على معظم السهل والجبل، 
ثم شهد اليمن – لاحقاً – حكم «الدولة الرسولية» التي حكمت معظم الجغرافيا اليمنية من عاصمتها «تعز»، في السهول الغربية للبلاد، حوالي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، مع بقاء الولاية الاسمية للخليفة العباسي في بغداد، طول فترة هاتين الدولتين.
وكان من ضمن الدويلات المستقلة في اليمن الدولة الزيدية الأولى التي أسّسها الهادي الرسي مع نهاية القرن التاسع الميلادي، بعد حركة تمرد ضد الدولة الزيادية، حيث استقلّ بصعدة، في الجبال الشمالية للبلاد،
 ثم نشأت دويلات أخرى إلى أن جاء الأيوبيون وقضوا على تلك الدويلات، ووحّدوا اليمن ما باقي أقاليمهم في دولة واحدة، قبل أن يجليهم الرسوليون من بني غسان عن اليمن، 
ويعيدوا توحيد اليمن مع أجزاء من الجزيرة تحت سيطرتهم منطلقين من عاصمتهم تعز في السهول الجنوبية الغربية، حيث كانت تلك الدولة أقوى الدول اليمنية المستقلة عن العباسيين، وأكثرها تطوراً في مختلف المجالات 
قبل أن تسقط على يد الطاهريين الين استقلّوا عنها، وسيطروا على تعز وعدن، 
ليمدوا حكمهم إلى صنعاء في وسط الهضبة اليمنية، فيما بعد، قبل أن يسقطهم المماليك الذين تعاون معهم في إسقاط الطاهريين أحدُ أئمة الزيدية، قبل أن يسقط حكم المماليك في مصر على يد العثمانيين، ثم يدخل اليمن فيما بعد تحت السيطرة العثمانية.
ما الذي نستخلصه من هذا السرد شديد الإيجاز؟
نستخلص أن كل حركة انفصال إنما تأتي بهدف الوصول للسلطة والثروة، وأن كل حركة انفصال تتحول بعد الوصول للسلطة إلى حركة توحيد، لأن الهدف من دعوات الانفصال والتوحيد هو السلطة، 
ونستخلص أن كل دولة حكمت اليمن قبل الإسلام وبعده كانت تسعى لبسط سيطرتها على كامل الجغرافيا اليمنية،
 ونستخلص أن الحدود الشطرية التي كانت في اليمن قبل عام 1990 إنما كانت حدوداً رسمها تقاسم السيطرة بين دولة العثمانيين والإنكليز والزيديين، وبالتالي فهي حدود مؤقتة كغيرها من الحدود الجغرافية التي كانت ترسمها القوة العسكرية،
 ونستخلص أن فترات الاستقرار في اليمن كانت تلك التي تغدو فيها العلاقة بين الجبل والسهل علاقة تكاملية، وأنه عندما تختل تلك العلاقة يدخل اليمن في الصراعات والحروب الأهلية.
واليوم، ونحن نشهد سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن على معظم المحافظات الجنوبية والشرقية للبلاد، لا يمكن أن نفهم هذه السيطرة بعيداً عن منطق التاريخ السياسي والعسكري للبلاد، 
وهو التاريخ الذي يقوم على منطق التمرد والاستقلال عن الدولة، من أجل العودة للسيطرة عليها مرة أخرى، وهو ما كان بارزاً في حروب شطري البلاد قبل تحقيق الوحدة، وهي حروب كانت تُخاض «من أجل تحقيق الوحدة اليمنية».
ومع استعراض هذا التاريخ يمكن الخلوص إلى أن تقسيم اليمن لن يكون على أية حال وصفة استقرار. التاريخ يقول ذلك، والجغرافيا تؤكده، وقد رأينا كيف تشن حركات الانفصال هجمات متعددة للسيطرة على السلطة، ثم تتوسع لتوحيد البلاد كلها. 
وبما أن التاريخ يتدفق والوسائل تتغير فإن فصل أي جزء من اليمن بالقوة لن يكون هو الحل، وإن تقسيم اليمن لن يكون خطراً على اليمنيين وحدهم، بل على الإقليم والدول المجاورة بشكل أساس. 
هذه هي الحقيقة، رغم أنها اليوم مغطاة بفعل غبار الصراع الذي تفجّر بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء، إذ أنّ سيطرة طرف على مركز الدولة يعني تشجيع بقية الأطراف على الانفصال عنها.
والحقيقة الأخرى هي أن أي شكل من أشكال وحدة السيطرة والتسلط واختلال موازين القوة لم يعد ممكناً في البلاد التي حكمها السبئيون قبل آلاف السنين بالتوافق بين مكوناتها المختلفة، 
والتي حكمتها كذلك الدول المختلفة عبر سلاسل من التحالفات القائمة على أساس من التوافق والتوازن بين أجزاء الخريطة، وهو المبدأ الذي ما إن يختل حتى تتفجر الحرب من جديد.
واليوم، ينيغي لأولئك الذين يريدون تقسيم اليمن بالقوة، ويطالبون بـ»حق تقرير المصير للجنوب» عليهم أن يقفوا أمام مسؤولياتهم التاريخية بعدم استعمال القوة في تقسيم البلاد. 
وعليهم أن يعرفوا أن القول بمطلب «تقرير المصير» لا يمكن حصره في منطقة معينة، إذا تم الأخذ به، وهو ما يفتح الباب أمام انقسامات لا حصر لها.
إن إعادة قراءة التاريخ اليمني قديماً وحديثاً هو الكفيل باستخلاص ليس العِبر وحسب، ولكنه يمكن أن يرسم الطريق نحو الحلول، إذ أن الحل الأمثل في الحالة اليمنية يتضمن إعادة توزيع مركز الثقل بشكل متوازن بين الجبل والسهل، 
وهنا يمكن لجنوب البلاد أن يقود الدولة إذا وسّعت النخب السياسية أفقها، لتجعل الجنوب مركز الثقل اليمني، بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، 
الأمر الذي يمكن أن يبقي اليمن موحداً، مع تصحيح الأوضاع، وتصحيح معادلة القوة بين سهول اليمن وجبالها، بشكل يعيد الاعتبار للسهول، 
ويهيئ الفرصة للجبال للاستفادة من استقرار تلك السهول، مع تحول جنوب البلاد إلى مركز قوة، بما يهيئ لتكافؤ المناطق المختلفة، 
ويجعل الجنوب في موقع مَنْ يعيد صياغة معادلة الوحدة، ويسهم بشكل فعال في إعادة تشكيل الدولة اليمنية، على أساس من توزيع عادل للسلطة والثروة، يتجاوز فكرة المظلومية، ويعيد ضبط العلاقة بين السهل والجبل، بشكل تكاملي.