القضية الجنوبية: حين يتحول الوهم السياسي إلى بديل عن الدولة
ليس من السذاجة السؤال: هل انتهت الحرب في اليمن؟
السذاجة الحقيقية هي الاعتقاد أن الحرب هي المشكلة، وأن الجنوب ملف يمكن إغلاقه ببيان سياسي أو استعراض عسكري، فالحرب عرض، أما المرض الحقيقي فهو غياب الدولة، وتفكك الوعي السياسي، وتحول القضايا المصيرية إلى أدوات في أيدي لاعبين بلا مشروع..
ملف الجنوب لم يغلق، لأنه ببساطة لم يفتح يوما بطريقة صحيحة، وما يجري اليوم ليس معالجة للقضية الجنوبية، بل استثمار فج فيها، وإعادة تدوير لها كوقود دائم للصراع..
الجنوب قضية بلا سقف… وسوق بلا ضوابط
القضية الجنوبية، منذ تعقدها في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، لم تكن يوما قضية واحدة واضحة المعالم، بل مساحة رخوة اجتمعت فيها الأيديولوجيا، والصراع الدولي، والطموحات الشخصية، والانقلابات المتكررة وتحولت الجغرافيا الجنوبية إلى ساحة مستباحة، وكل من امتلك سلاحا أو خطابا أو دعما خارجيا ادعى أنه الوصي على “القضية”..
حتى بعد الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، لم تبن دولة مستقرة، بل أنتج نظام مأزوم سقط مرارا، بينما بقيت القضية الجنوبية حية، قابلة لإعادة الاستخدام عند كل أزمة، وهذا وحده دليل قاطع على أن المشكلة لم تكن يوما في “الآخر”، بل في بنية الحكم نفسها، وفي النخب التي فشلت في تحويل الاستقلال إلى دولة..
يناير 1986: لحظة سقوط القناع
أحداث يناير 1986 لم تكن حادثا عابرا، بل شهادة إدانة تاريخية للنخب الجنوبية، هناك، سقط خطاب الثورة، وتعرت الشعارات، وانكشف العجز الكامل عن إدارة الاختلاف دون اللجوء إلى الإلغاء الدموي، ومنذ تلك اللحظة، لم تعد القضية الجنوبية قضية مظلومية فقط، بل قضية فشل داخلي عميق..
بعد يناير، وضعت القضية في ثلاجة إقليمية ودولية، لا احتراما لها، بل خوفا من انفجارها، كانت بانتظار تسوية كبرى، ولم يكن لأحد في الداخل قدرة حقيقية على فرض حل..
وحدة بلا حل… وحرب بلا نهاية
جاءت وحدة 22 مايو 1990 لا كحل تاريخي للقضية الجنوبية، بل كهروب سياسي إلى الأمام، لم تعالج جذور المشكلة، ولم تبن دولة شراكة، فكانت النتيجة حرب صيف 1994 التي انتهت عسكريا، لكنها تركت القضية أكثر تعقيدا، وأكثر قابلية للاستثمار السياسي!.
ومنذ ذلك التاريخ، فشلت النخب – وبصورة فاضحة – في تقديم تعريف صادق للقضية الجنوبية، هل هي قضية دولة؟ أم حقوق؟ أم شراكة؟ أم مجرد ورقة ضغط؟
الجواب ظل غامضا عمدا، لأن الغموض هو البيئة المثالية للتكسب السياسي!.
الانتقالي: سلطة بلا مشروع
ولو كان المجلس الانتقالي الجنوبي يمتلك رؤية حقيقية للحل، لكان قد قدمها منذ 2017، لكن الحقيقة القاسية أن ما يطرحه الانتقالي ليس مشروع دولة، بل إدارة أزمة، وخطاب تعبوي، واستثمار طويل في المظلومية دون أفق..فاقد الشيء لا يعطيه، ومن لم ينجح في بناء نموذج دولة في المساحات التي يسيطر عليها، لن يبني دولة بمجرد رفع علم أو تغيير نشيد..
لا دولة خارج اليمن… إلا في الخيال
القول بأن القضية الجنوبية يمكن حلها بعيدا عن اليمن الكبير هو تضليل سياسي متعمد، أي كيان جنوبي يقام دون توافق وطني شامل، ودون تسوية إقليمية ودولية كبرى، لن يكون دولة، بل ساحة نفوذ جديدة، وصراعا مؤجلا، وانفجارا قادما..
التاريخ واضح:
القضايا التي تنشأ من غياب الدولة لا تحل بتفكيك ما تبقى منها والجنوب، إن خرج من إطار الدولة الجامعة، لن يستعيد سيادته، بل سيخسر حتى وهمها!.
القضية الجنوبية لا تحتاج مزيدا من المتاجرين بها، بل تحتاج شجاعة الاعتراف بالحقيقة:
المشكلة ليست في “اليمن الكبير”، بل في غياب دولة عادلة داخله ومن يبيع للناس وهم الانفصال كحل سحري، إنما يهرب من مسؤوليته عن الفشل، ويدفع الجنوب واليمن كله نحو مصير أكثر قسوة..
إما مشروع وطني جامع يعالج جذور الأزمة داخل دولة يمنية حديثة، أو استمرار النزيف، واستدامة الفوضى، وإعادة إنتاج المأساة إلى ما لا نهاية وهنا يأتي دور النخب الواعية بعيدا عن الدهماء..