بين أن تكون معارِضا أو حركيا...شعرة الخيانة

سامي كليب : يقول الرئيس الفرنسي السابق جورج بومبيدو " إن من يمضي حياته معارِضا هو كالشاعر الفاشل الذي يمضي أيامه يقرأ ويحكم على شعر الآخرين" ، أما العالِم الكبير ألبير أنشتاين فيقول : " ان الأفكار العظيمة غالبا ما تلقى معارضة شرسة من أصحاب الأفكار السطحية" . ويتفق الجميع على أن المعارضة البناءة هي التي تقترح مشروعا واقعيا للإنقاذ ويكون لها قائد كاريزمي وتحيي الأمل عند المواطنين وتحمي برمش العين حدود الوطن ووحدته واستقلاله وتماسك نسيجه الاجتماعي. من الطبيعي والحالة هذه أن كل المجتمعات تحتاج الى معارضة منعا للركود السياسي والفساد المالي والأخلاقي ولتجديد نفسها .. ولكن .

نحن في الوطن العربي ابتُلينا بمعارضات أسوا من الحكومات. فمعظمها ينزل الى الشوارع بلا مشاريع أو بمشاريع طوباوية يثير غرائز الناس لا عقولهم. ينشد الدعم الخارجي قبل الالتفاف الوطني. يرتمي في أي حضن حتى ولو كان للشيطان بغية الوصول الى السلطة، ثم تنقسم المعارضة على نفسها وتتبادل الشتائم وتتصارع، أو تغرق تحت تخمة المال والمساعدات المعروفة والمشبوهة، فتترك خلفها أحلاما مدمرة ودولا مدمرة ونفوسا مدمرة ومجتمعات أكثر تفكيكا من السابق. ولو وصل المعارِض منهم الى السلطة يُصبح إقصائيا أكثر مما عاناه من الاقصاء، والغائيا أكثر مما تحمله من الإلغاء، وفاسدا أكثر من فساد من حارب لإسقاطه. يقدم نموذجا صارحا لمتلازمة ستوكهولم وهي حالة مرضية نفسية بحيث يتعلق السجين بجلاده حتى يكاد يقلده.

لم نعرف في الوطن العربي حركة معارضة ترفّعت عن المال وصاغت مشاريع وطنية دون الغرق في حروب الغاء الآخرين، لكننا عرفنا قامات معارضة تركت بصماتها على الفكر السياسي دون أن تُحدث تغييرا كبيرا في المجتمع بسبب القمع أو المنع او القتل او السجن.

قبل الثورة الجزائرية المجيدة، جنّدَ الاستعمار الفرنسي رجال شرطة في الجزائر في مجموعات متحركة للتفتيش في الأحياء الجزائرية، ثم مع الثورة تحولت هذه المجموعات الى أشرس أنواع المقاتلين وأسوا أنواع رجال الأمن الذين يقتلون أبناء جلدتهم أو يمارسون ضدهم أكثر عمليات التعذيب ظلما وقسوة للحصول على اعترافات. عُرف هؤلاء باسم " الحَركيين" ( بتسكين الراء). خانوا بلادهم وقتلوا الثوار، لكنهم في النهاية هربوا أذلاء خانعين عبر البواخر الفرنسية أو تركهم الجيش الفرنسي فريسة للثوار كما يُترك الخائن عادة من قِبَل من استخدمه، بينما الجزائر انتصرت بكرامة اهلها وعزتها وتضحياتها الجسام وصارت منارة ثوراتنا . هذا حصل أيضا مع العملاء الذين خدموا إسرائيل في لبنان تحت لواء " جيش لحد" و "جيش لبنان الجنوبي" وما الى ذلك من أسماء تركت بصمة الخيانة على جبين أصحابها. بينما لبنان انتصر على عدوه التاريخ بعزة مقاومته وصلابة شعبه وتضحياته

لا يزال الحركيون الجزائريون حتى اليوم يعانون من عدم الاعتراف الفعلي بهم في فرنسا، ويحمل ابناؤهم بصمة الذل خصوصا حين يعود أحدهم الى الجزائر ويحاولون نكران تاريخ أهلهم وأجدادهم. يجرجرون ذلهم منذ أكثر من ٦٠ عاما.

في خلال رحلاتي الأخيرة الى عدد من الدول التي كانت منذ العام ٢٠١٠ قد فتحت حدودها وخصصت اعلامها ومالها ورجالها لتمرير فكرة " الربيع العربي" وتمرير كل أنواع الإرهاب الى بلادنا تحت شعار الحرية والديمقراطية، وجدتُ الكثير من المعارضين ضائعين متقاتلين يتبادلون الاتهامات عن العجز والخسارة، ووجدت دولا كانت حتى الأمس القريب تفتح لهم القصور الرئاسية وتقيم لهم الموائد والاحتفالات العامرة، ترميهم على قارعات الطرق، وبعضهم ما عاد يعطيهم حتى تأشيرة دخول.

لا يُمكن أن تستقيم دولنا دون معارضة حقيقة ووطنية وصاحبة مشروع. فسوريا بعد الحرب بحاجة الى معارضة وطنية تراقب وتحاسب الحكومة حتى من قلب البرلمان، ولبنان بحاجة الى معارضة تنقذه من مصيره المخيف شرط أن لا تكون من بقايا من ساهم بتدمير البلد تحت شعارات وطنية زائفة، والسودان بحاجة الى معارضة وكذلك مصر والعراق والخليج والمغرب الكبير وكل دولة عربية او غير عربية لا تقوم بلا معارضة، شرط أن تبقى تحت سقف الوطن والقانون.

من مسؤولية الدول التي تحترم نفسها أن تترك الأحزاب تنتعش في ظل القانون وتتحاور وتتعارض، لأن في مثل هذا النقاش الفعلي تتجدد المجتمعات، وليس بالقمع والسجن والقتل والسحل والمنع. فهذه الممارسات لم تحم الأوطان وانما حوّلتها الى لقمة سائغة لكل غازٍ ومحتلٍ وطامع وارهابي.

لكن كل الفرق هو بين أن تكون معارِضا وناقدا وطنيا وشريفا وصاحب مشروع واضح وتحافظ على أمن الوطن وسيادته ولحمته، وبين أن تكون حركيا تخون بلادك وتساهم بتدميرها ثم تأتي بعد التدمير لتلاوة فعل الندامة.

هذا هو الفرق الفعلي بين معارِض وحركي.