الهروب من الخبز الى الحرية

حققت "كوبا" سجلا مثاليا في الصحة والتعليم.

نسبة تعليم وصلت إلى 99 في المئة. أعلى معدل للاطباء في العالم. وعمر متوقع للحياة في حدود 79 عاما. كما احتلت كوبا المرتبة الخمسين في تقرير التنمية البشرية لعام 2016 من بين 63 دولة حققت تنمية بشرية مرتفعة.

سجل مثير للإعجاب!

ومع ذلك يلقى مئات الكوبيين حتفهم على قوارب الهجرة غير الشرعية. كل عام يهرب ما بين (20-40 ألف) كوبي من "جنة الفقراء الفقيرة" إلى الولايات المتحدة وكندا والمكسيك في رحلة بلا عودة.

بلغة الأرقام البسيطة، هذا يعني أن 100 شخصٍ يهربون كل يوم. يتواجد في الولايات المتحدة وحدها مليون ومئتي ألف كوبي (12 في المئة من عدد السكان) وهي من أعلى معدلات الهجرة عالميا.

فلماذا يهربون؟

أثارت وفاة الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو عاصفة من النقاش حول التجربة الكوبية. فهل تستحق تجربة "العدالة الاجتماعية" الخسارة الضخمة للكوبيين في حرياتهم الفردية والمدنية والسياسية؟ وهل نجحت فعلا معادلة "الخبز مقابل الحرية"؟

المؤيدون قالوا إن الكوبيين لم يخسروا كثيرا. وإذا كان الخيار بين خبز بلا حرية أو حرية بلا خبز فإن الخبز أولى. فليضحوا بالديموقراطية والتعددية وحرية التعبير والتنقل وحرية الفكر والضمير من أجل التعليم المجاني والصحة والحصص الغذائية المدعومة.

لكن الهروب الكبير للكوبيين يقول عكس ذلك.

يقال إذا كانت المفاضلة بين الخبز والحرية، فإن الحرية هي الأهم.

إذا درسنا تاريخ الهروب في القرن العشرين سنجد أن الهروب كان دوما ناحية الغرب الديمقراطي الرأسمالي. من أوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية. ومن العالم الثالث إلى أوروبا. وإن كثيرين ممن هربوا لم يكن ينقصهم العمل أو المال أو الخبز لأنه كان متوفرا بالمجان.

كان هروبا من أجل الحرية.

أكبر هروب جماعي في التاريخ الحديث شهدته ألمانيا الشرقية. في عقود الحرب الباردة فر وهاجر حوالي خمسة ملايين ألماني إلى ألمانيا الغربية بعد تحول ألمانيا الشرقية إلى دولة شيوعية على النمط الستاليني. بين (1950-1960) كان يهاجر أو يفر سنويا ما بين 100 ألف إلى 200 ألف مواطن، أي أكثر من 500 شخص في اليوم!

كانت ألمانيا الشرقية نموذج "الخبز" وألمانيا الغربية نموذج "الحرية". وكان اختيار الناس واضحا وكاسحا.

ألمانيا الشرقية هي الدولة الوحيدة التي لم يزد عدد سكانها خلال 45 عاما بين (1945- 1990) بل نقصوا بمعدل ثلاثة ملايين مواطن رغم المواليد الجدد. وعندما تحققت الوحدة بين الألمانيتين انتقل مليونا مواطنا إضافيا إلى الجزء الغربي من ألمانيا. 40 في المئة من مواطني ألمانيا الشرقية تقريبا صوتوا للحرية.

كانت معدلات الهروب من الدول الشيوعية كبيرة إلى درجة أن الاتحاد السوفيتي اعترض بشده على المادة (13) في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أقر عام 1948. ونصّت على حرية كل فرد في التنقل. واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة، وحقه في أن يغادر أي بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليه.

كانت هذه المادة تعني إفراغ دول الكتلة الاشتراكية من مواطنيها. خلال أول خمس سنوات للحرب الباردة هاجر 15 مليون شخص من الكتلة الشرقية إلى الكتلة الغربية، ولم يعد أمامها من حل إلا تدشين سياسة "الستار الحديدي". أنشئ جدار برلين عام 1961. شددت الدول الاشتراكية على إجراءات إصدار الجوازات، والسفر، والتنقل. كان السفر إلى دولة غير اشتراكية مغامرة قد يكون ثمنها الموت تعذيبا أو رميا بالرصاص.

لم يسأل مناضلو "الخبز قبل الحرية" أنفسهم يوما ما الذي يدفع إنسانا إلى التضحية بحياته والموت أثناء محاولة الفرار عبر الحدود ما دام يوفر له الأكل والتعليم والتطبيب بالمجان!

تحولت تجارب العدالة الاجتماعية إلى ما يشبه "الإطعام الاجباري للمعتقلين". تعليم إجباري، حصص غذائية إجبارية، أيديولوجيات إجبارية. ستقدم لك دولة العدالة الاجتماعية الطعام والمسكن مقابل أن تعيش مكتوف اليدين ومقيد القدمين طول العمر.

في الوطن العربي اصطنع الثوار العرب ذات التناقض الوهمي بين الخبز والحرية، تارة باسم أولوية التنمية على الديموقراطية، وتارة تحت شعار أولوية الديموقراطية الاجتماعية على الديموقراطية السياسية. تحولت الأوطان إلى معسكرات احتجاز وخسرنا الخبز والحرية معا.

لم يصطنع ثوار العدالة الاجتماعية هذا التناقض لأنهم مع العدالة ولكن لأنهم ضد الحرية. أغلب الإيديولوجيات التي حكمت العالم العربي في الستين عاما الأخيرة كانت معادية للحرية.

لكن الدرس صار واضحا.

إذا حققنا العدالة والخبز دون حرية، فإن التجربة ستسقط لغياب الرقابة الشعبية عليها وعدم إمكانية النقد والتصحيح. أما الحريات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية فهي التي تجذب الخبز والتنمية والعدالة وتصونها.

- نشرهذا المقال في مدونات موقع "ارفع صوتك"