ضَعْ زهرةً كي تقهرَ الرحيل

حين توفيَّ زميلنا وصديقنا المُحبُّ والمثقف والطيِّب غسان عبد الخالق في باريس قبل سنوات، أصابتنا نحن الذين رافقناه في مسيرتنا المشتركة في إذاعة " مونت كارلو" صدمة الفراق القاهر. كان حزنُنا مضاعفا، أولاً على رحيل المذيع والإعلامي المحترم والأنيق، وثانيا على زوجته الزميلة المثقفة والمحبة أيضا نايلة التي كانت معه نموذجا لعاشقين دائمين يُحبّبان كل من يراهما بالحب والزواج، وينعمان مع ولديهما اللذين حققا بفضل جهد الوالدة لاحقا مكانة جيدة في المجتمع الفرنسي حياة هانئة وساحرة.

ما كنتُ أعتقد، أنا التارِكُ خلفي، بلدي الجميل لبنان مُدمّرا بفعل التآمر الخارجي، وتآمر أهله على بعضهم البعض، وتصارع الرِفاق على مزابل التاريخ، وانهيار القضايا في أسواق الشعارات الخاوية، أن ثمةَ حُزناً سيُصيبُني بعدُ. ففي بلدي تركت خلفي أهلا ورفاقا وأصدقاء جُثثاً تحت الدمار، وأنيابا تضحكُ فوق الجثث لمعرفتها أنها مهما فعلت ستبقى تحكم البلد بدعم المذاهب والطوائف والزعامات والتقاليد والانتماءات المختلفة والمتنوعة، الا الانتماء للوطن.

لكني حزنتُ بعمقٍ وصمت على غسان الجميل. ربما فهمت لاحقا أن سبب حزني ما كان مرتبطا فقط بفقده، ولكن أيضا بذاك الصقيع الذي اجتاح مسام جسدي حين وصلنا الى المدافن الفرنسية حيث وُريَ الثرى. كنا مجموعة صغيرة حوله. كانت المدافن أنيقة تملأها الزهور، وكان قليلٌ من الناس غيرنا يضعون زهرة هنا، أو قبلة أو صلاةً هناك. قُلتُ في سرِّي، أتمنى ألا أٌدفن بهذه الطريقة حين أموت. وكأنما الميتُ يشعر بمن حوله، أو ربما لأني تذكّرت لهفةَ الناس في قُرانا الجبلية اللبنانية، حين يتقاطرون الى منزل الفقيد يواسون أهله ويُشعرونهم بدفء البشر وعظمة الانسانية في لحظات الفراق.

اليوم كنت في وداع قريبٍ لنا. رجلٌ طيب، خدم في الجيش اللبناني. أحبَّ هذه المؤسسة، وحافظَ طيلةَ حياتِه على ابتسامته الدائمة، وطيبته ومحبته، وبقي حتى في أوج تفاقم المرض العضال عليه، يروي قصص حياته العسكرية في كل المناطق اللبنانية ويحب الأرض وعائلته وأهله والجيران. كنا نناديه ب " عمي سليم" رغم أنه لم يكن شقيقا لأحد أهلي. ثم مررنا مع أشقائي لتقديم واجب التعزية في منطقة إقليم الخروب التي خرّجت تاريخيا أصدق العروبيين والناصريين واليساريين والمثقفين والقضاة وكبار الضباط والموظفين، قبل أن تشوهها الدعايات المغرضة على أن فيها إسلاميين متطرفين. ففي كترمايا احدى قرى الاقليم كان الوزير السابق الصديق نهاد المشنوق يتلقى أمس التعازي بوفاة والدته. ربطتني بالمشنوق صداقة طويلة لكني لم أزره في وزارته الا مرة واحدة، ذلك أني كنت ولا زلت أفصل الصداقة عن التملُّق والمصالح، ولا أحب المتملقين.

سأُخبركم الآن عن بعض عاداتنا التي أتمنى ألاّ تقتلها وسائل التواصل الاجتماعي والحياة المادية الحديثة. وسوف تعرفون لماذا احدثكم عن صقيع أو حرارة المدافن، رغم أنها مدافن في نهاية المطاف.

في الصباح الباكر، ينادي أحد رجال القرية عبر مكبِّر الصوت، داعيا الناس للمشاركة في تشييع من توفي بالأمس أو ليلا. وبما أن النداء لا يزال عبر المكبِّرات التقليدية، فإنه يعيد النداء مرات ثلاث، بحيث يوجهه في كل مرة نحو منطقة من قريتنا الجميلة الوادعة والتي تحيطها الجبال بحنان استثنائي ويرمي القمر كل ليلة ربيع أو صيف شاله المرصع بالنجوم فوقها.

يبدأ الناس بالتقاطر على المركز المخصص في قريتنا للمآتم والمناسبات الأخرى. كلما وصل وفدٌ منهم أو من القرى المجاورة، يصطفون الى جانب بعضهم البعض، يتقدمهم الأكبر سنا، ثم يتبادلون وهم على مسافة مترٍ واحد من أهل المرحوم، عبارات العزاء والمواساة، كمثل القول: " العوض بسلامتكم، الله يرحمه ويبقيكم، خاطرنا عندكم، ان شاء الله في الجنة، هذه خسارة لنا ولكم " ويردُّ أهل الفقيد بعبارات مماثلة مضاف اليها عبارة تربط الخسارة بالأمل والفرح رغم الحزن وتقول: " ان شاء الله نكافئكم بالأفراح". ثم تجلس الوفود على الكراسي مقابل عائلة الفقيد وأقربائه، ويتبادلون الأحاديث الجانبية وهم يستمعون الى القرآن الكريم.

يقوم أهل الفقيد وأقرباؤه ويقعدون عشرات المرات، لا يضيرهم ذلك أبدا، فعند وصول كل وفدٍ أو حتى شخص لوحده، يقفون لتقبّل التعازي، ويبقون واقفين لو ظهر وفد خلفه، أو يجلسون لبعض الراحة، ويتقدّم مدخل المجلس رجال الدين ومعظمهم من المتقدمين بالسن. كلما ازداد عدد المعزين، يطمئن أهل الفقيد على أن حظوتهم عند الناس لا تزال كبيرة.

في قريتنا شابٌ لا أعرف عمره، ولا يظهر عمره أصلا. هو هكذا منذ عرفته قبل سنوات طويلة. ينتمي الى عالم أولئك المعوّقين ذهنيا أو من يُعرفون باسم " المنغوليين" ( ليتنا نجد اسما أقل وطأة يشبه قلوبهم الطيبة). يأتي هذا الشاب في كل مناسبة، حزينة كانت أو سعيدة. يخدم في المآتم والأفراح. يصافح الجميع بجسده المنتصف القامة، وابتسامته الدائمة، وعينيه اللتين رغم شكلهما غير المألوف، تختزلان كل حبَّ العالم، ثم يحمل قناني المياه البلاستيكية يوزعها على المعزّين، ويتأكد أن كل شخص أخذ حصته منها، ثم يرتاح قليلا، لكنه يعود مجددا الى جولته ليتأكد أن القادمين الجديد حصلوا على المياه.

بعد مرور نحو ٣ ساعات، يتقدم شيخٌ، يقترح أن ينتقل الجميع للصلاة على الجثمان. فينزل بعض الرجال مع أهل الفقيد وأقربائه الى الطابق السُفلي حيث يُسجّى الجثمان، نسمع صراخ النساء في اللحظات الأخيرة للوداع، لكننا نسمع أيضا بعض الرجال، يذكرون الصفات الحميدة للفقيد ويتحدثون عن المحبة والإخلاص والكرم والوفاء وحسن السمعة، وتكون النساء قد سبقتهن الى ذلك، وهو ما يسمونه عندنا ب " تعداد" حسن الصفات، فيقال:" عدّدوه".

نخرج جميعا بعد ذلك الى ساحة المجلس. يوضع الجثمان في تابوت خشبي، يتحلق حوله الأهل والمواسون، ثم يبدأ بعض رجال القرية بالتقدم واحدا تلو الآخر، ليحكي عددا من الخصال الحميدة للفقيد، متمنيا على رجال الدين طلب الرحمة له والصلاة عليه. ثم يبدأ المشايخ بالصلاة، فيقرأون الفاتحة وبعض سور القرآن الكريم، ويختارون أفضل الأصوات من بينهم كي تكون الأقرب الى الميكروفون (واعتقد أنهم يتنافسون قليلا بذلك) بينما النساء من أهل الفقيد وقريباته والمواسيات والمعزّيات، يتحلقن خلف نوافذ المجلس، يشاهدون عن بعد وداع الرجال للفقيد والصلاة عليه، ويستمرون في ذرف الدموع والترحُّم.

بعد الصلاة، يتقدم شُبّان القرية، بحماسة المُحبِّ، يرفعون الجثمان الى سيارة الدفن، أو يسيرون به محمولا على الاكتاف حتى المدافن، ويسير خلفهم أهل الفقيد وعدد لا بأس به من الناس، بحيث يبقى الجميع في لحظات المواساة والوداع حتى يوارى الثرى.

غالبا ما يعود أهل الفقيد الى منزلهم، ليجدوا أن أقرباءهم أو بعض أصدقائهم قد تولوا توفير الطعام للجميع. هذه من العادات الجميلة الراسخة، بحيث أن ثمة تنافسا يحصل كل يوم ولثلاثة أيام أو أسبوع كامل، بين الذين يرغبون بإرسال الطعام الى أهل الفقيد، من منطلق أن حزن هؤلاء لن يسمح لهم بالطهي أو التمتع بالمأكول والمشروب.

في قريتنا الجميلة الوادعة الخضراء ربيعا وصيفا، والمكللة بالثلوج شتاءً لا يزال الناس هكذا. مهما فرّقتهم هموم الحياة، غالبا ما يتركون أعمالهم، ويتقاطرون على منزل المصابين بالفقد والحزن، يبقون الى جانبهم، يواسونهم، يساعدونهم في لحظات الفراق، فيخففون من وطأة الحياة، وجرح الرحيل. وحين يذهب بعضهم لإضاءة الشموع او وضع الزهور على ضريح قريب له، قد يضيء الشمع على مقابر أخرى، ففي قريتنا لا يزال الحب يقهر الموت، ولا تزال الورود وطباع الناس وعاداتهم الرائعة، تقول للردى انه لن ينتصر على إرادة الحياة. وأنا أفتخر وأعتز بقريتي وعادات أهلها التي أتمنى أن تستمر الى أبد الآبدين.

هل عندكم العادات نفسها ؟؟؟