مخاطر التحريض ضد "الشماليين" في الجنوب

مؤسف ما حَصَلَ، أمس، في عدن؛ سقوط 49 شهيداً في جريمتين قذرتين. فُجِعنا جميعاً بما جرى، لكن "البعض" قاموا بتوظيف الجريمتين لتدعيم أراءهم المناطقية والعُنصرية المريضة، التي تَجَلَّت على شكل دعوات طالبت بإخراج "الشماليين" من عدن، ثُمَّ انعكست كأفعال باشرت تنفيذ تلك الدعوات على أرض الواقع!

جماعة الحوثي، تأسست وقامت اعتماداً على استنهاض الوعي الطائفي والمناطقي، ثُمّ حَوَّلت هذا الوعي إلى أداة للفرز الاجتماعي، واستخدمته كمبرِّر لإرهاب المجتمع، وشَنَّ الحروب على مكوناته المختلفة. لهذا، فهذه الجماعة المليشاوية هي المستفيد الوحيد من التصعيد التحريضي الحاصل اليوم في الجنوب ضد "أبناء الشمال". علاوةً على أن هذا التحريض لا يخدم الجنوب، بل يسيئ إليه ويَضُرّ بقضيته العادلة.

من الواضح أن جماعة الحوثي نفذَّت الجريمتين كرد على الهزائم المتتالية التي تجرَّعتها في الضالع؛ على أيدي أبطال قوات الجيش والمقاومة الجنوبية، ومقاومة "مُرِيس". بدلاً من الانتقام من مليشيات الحوثي عبر تكثيف الجهود في ميادين البطولة وجبهات القتال، تَمَّ اختلاق معركة داخل الصف الوطني وبنيته الاجتماعية؛ التحريض على "الشماليين" في الجنوب! وأدَّى ذلك، بالضرورة، إلى خلط الأوراق وإرباك المشهد، وتشتيت الجهود الوطنية العامة عن المعركة الحقيقية مع مليشيات الحوثي الانقلابية، وهي معركة يجب على الجميع تركيز كل جهودهم لها.

"الحوثي"، كَرَّس كل جُهدِه لاستنهاض الوعي الطائفي والمناطقي؛ لأن هذا الوعي هو الأداة الفاعلة التي مَكَّنته من بناء جماعته المليشاوية العصبوي، ثُمَّ الهيمنة على البلاد، واخضاعها لسلطته المطلقة. من مصلحة "الحوثي" الاستمرار في إظهار الصراع على أنه صراعاً طائفياً ومناطقياً، وليس صراعاً سياسياً واجتماعياً. والحال كذلك، فالعُنصريون الذين حَرَّضُوا/ يُحَرِّضون على إخراج "الشماليين" من عدن والجنوب، والذين ترجموا ذلك كأفعال على أرض الواقع، سيدفعون عدد غير قليل من "أبناء الشمال" إلى الاصطفاف خلف "الحوثي". من هنا تكمن خطورة الدعوات والأعمال العُنصرية التي يُطلقها ويمارسها هؤلاء.

الدعوات العُنصرية ضد "الشماليين" في الجنوب، ستمنح "الحوثي" فُرصة ليظهر مرتدياً ثوب "البطولة"، والتحدُّث من موقع المدافِع عن مصالح وحياة "الشماليين" البسطاء. في أسوأ الأحوال، ستجعل منه "خيار الضرورة" بالنسبة لعدد غير قليل من "الشماليين". وهذا ليس في مصلحة اليمن، ولا الجنوب.

جماعة الحوثي، تأسست وقامت اعتماداً على استنهاض الوعي الطائفي والمناطقي، ثُمّ حَوَّلت هذا الوعي إلى أداة للفرز الاجتماعي، ومبرراً لشَنَّ الحروب على المكونات المجتمعية المختلفة. لهذا، فاستنهاض المذهبية والمناطقية، أو التصعيد من نبرتها داخل البنية الاجتماعية، أمر يَصُبّ في خدمة "الحوثي" وجماعته المليشاوية.

قبل ثورة 2011، قَدَّم "الحوثي" نفسه كـ"بطل" يريد الدفاع عن المذهب الزِّيْدِيّ، واستنهاضه لحماية "حقوق" ومصالح معتنقيه. بعد ثورة 2011، قَدَّم نفسه باعتباره التعبير المذهبي والمناطقي الوحيد القادر على حماية مصالح وامتيازات قبائل شمال الشمال، وضمان استمرارها! لقد كَرَّس نفسه كمدافع عن المذهب، وحامٍ فعلي لمصالح معتنقيه. وبمرور الوقت، استطاع احتكار تمثيل "الجغرافيا الزِّيْدِيِّة"، واستنهَضَ وَهْم "التَّمَيُّز السُلالِيّ"، و"خرافة الولاية"؛ "الحَقّ الديني" في الحُكم. واعتماداً على سيولة المرحلة الانتقالية، وقوة الغلبة والإرهاب الميليشاوي المنظّم، تَمَكَّن من اجتياح "الدولة الوطنية"، وإعادة بَعْث "الإِمَامة" من القبر، وفرضها كأمر واقع على اليمنيين.

"الحوثي"، لم ينظر إلى اليمن كوطن، بل ككانتونات طائفية ومناطقية! لم ينظر إلى اليمن كـ"دولة للحقوق والمواطنة المتساوية"، بل كأداة للجباية والاستئثار العُنصري السُّلَالِيّ؛ وقبل ذلك كأداة لتأكيد التمايز الاجتماعي القائم على وَهْم "النَّسَب الإلهي" وخزعبلاته الوقحة! لهذا، كان الانقلاب على "الدولة الوطنية" هو المشروع الذي كَرَّس كل جُهدِه من أجل تحقيقه؛ ذلك أن "الدولة" لن توفِّر له فقط الامكانات والموارد اللازمة لشَنَّ الحروب "الضرورية" لإخضاع المجتمع، بل ستُمَكِّنه، أيضاً، من إعادة صياغة الوعي الاجتماعي والوطني العام وفقاً لآرائه وقناعاته العُنصرية المريضة.

جماعة الحوثي المسلّحة بالبارود والتَّعَصُّب، استطاعت تتطييف المجتمع اليمني؛ عبر تحويل المذهبية إلى طائفية صراعية. لقد استَنهضت المذهبية من سُباتها التاريخي، وجعلتها أداة للفرز الاجتماعي والصراع الديني والسياسي. أدّى ذلك إلى انتقال المذهبية والمناطقية من الهامش اليومي ومكبوتاته إلى صدارة المشهد العام. وكان من الطبيعي، والحال كذلك، أن تصبح التكوينات المذهبية والجهوية مُعسكرات عامة لـ"الأعداء". وما جرى ويجري اليوم في الجنوب هو، في جانب رئيسي منه، إحدى النتائج الكارثية المترتبة على "الانقلاب الحوثي".

وإذا كان التصعيد الطائفي دَفَعَ كثير من إخواننا في شمال الشمال إلى الاصطفاف خلف "الحوثي"، فالدعوات والأعمال العُنصرية الحاصلة اليوم في الجنوب ستدفع عدد غير قليل من "الشماليين" إلى فِعل الأمر ذاته.

الطائفية والمناطقية، كانتا الورقة الرابحة بالنسبة لـ"الحوثي"، وبدونهما ما كان له بناء جماعته المليشاوية المجنونة. لا تمنحوه فُرصة أخرى لاستخدام هذه الورقة، واستثمار النتائج المترتبة عليها.

...

التوظيف العُنصري للجريمتين، اللتين وقعتا في عدن، أمر بَشِع ستترتب عليه مخاطر لا يدركها أصحاب الدعوات العنصرية المريضة. على أن الأقذر من ذلك هو محاولة "مرتزقة قطر" استغلال دماء الضحايا، عبر توظيفها كأداة في الصراع السياسي اليمني والإقليمي، أو استخدامها كمبرِّر لتسويغ حملاتهم المنظَّمة ضد خصوم "الدوحة". وقد رأينا كيف استغلّوا، بطريقة مُعيبة وغير أخلاقية، الجريمتين؛ وكيف أغرقوا وسائل التواصل الاجتماعي بأكاذيب غبية وركيكة، حاولوا فيها، كالعادة، تحريض الرأي العام اليمني على "التحالف العربي"؛ من خلال اتهام أحد طرفيه بالوقوف خلف الجريمتين!

بعد وقوع الجريمتين مباشرة، نَشَرَ "مرتزقة قطر" تلك الأكاذيب والاتهامات دون أن يُكَلِّفوا أنفسهم حتى عناء تغليفها بمبررات وحيثيات منطقية ومقنعة! ذلك أنهم لم ينظروا للجريمتين إلاَّ باعتبارهما فُرصة للشَّتمِ والرَّدحِ، وشَنّ حملة تحريضية ضد "التحالف العربي"! لم ينظروا إلى الجريمتين إلاَّ من زاوية كونهما فرصة سانحة تُمَكِّنهم للقيام بدورهم كمرتزقة مهمتهم تنفيذ الأجندة القطرية في اليمن؛ وهي أجندة تَصُبّ، بشكل مباشر، في خدمة المليشيات الحوثية، وإيران!

يبدو واضحاً أن قطر كَرَّست نفسها لحرب إعلامية مفتوحة ضد "التحالف العربي" وما يقوم به في اليمن. تريد قطر، كما قلنا سابقاً، تحويل اليمن إلى مستنقع لإغراق خصومها الخليجيين، أو إجبارهم على مغادرة اليمن وهم مُحَمَّلين بهزيمة مذِلَّة.

لا أحد يعرف متى ستنتهي حرب قطر في اليمن، أو الحرب القطرية على اليمن والشعب اليمني، بتعبير أدق. لكن المؤكد أن "التحالف العربي" إذا تخلَّى عن واجبه القومي، وغادر اليمن، في الأوضاع الحالية وقبل القضاء على الانقلاب المليشاوي الحوثي، فذلك سيمكِّن المليشيات الحوثية من إعادة السيطرة على كامل البلاد؛ ما يعني وضع جنوب الجزيرة العربية تحت النفوذ والسيطرة الإيرانية المباشرة لفترة طويلة من الزمن.

كذلك، حاول "مرتزقة قطر" استغلال التحريض الذي جرى على "الشماليين" في عدن، وما رافقه من أعمال مؤسفة؛ إذ ضَخَّموا ما جرى، وهاجموا "المجلس الانتقالي"، رغم موقفه الرصين والمتوازن، الذي ظَهَرَ في البيان الذي أصدره بشأن الجريمتين. يرد "مرتزقة قطر" اختلاق معركة شماليةجنوبية، وقبل ذلك حاولوا، مراراً، اختلاق معركة بين الحكومة الشرعية و"المجلس الانتقالي الجنوبي".