مهــاجرون ثائــرون

كان المهاجرون اليمنيون ( منذ ثلاثينيات القرن المنصرم ، مثالاً ) ينقسمون الى ثلاث فئات :

أولاً ، الباحثون عن الثروة . وهؤلاء مخروا عباب البحر وقد وضعوا نصب أعينهم غرضاً واحداً محدداً : أن يجمعوا أكبر قدر من المال في أقل زمن ممكن . وقد حقَّق عديد منهم مُبتغاهم على نحوٍ يُثير الاعجاب . لعلَّ أبرز من يُمثِّل هذه الفئة برمزية عالية هو الحاج هائل سعيد أنعم .

ثانياً ، الداعون الى تعاليم الدين الاسلامي . وهؤلاء أنتشروا في عديد من بقاع العالم ، لاسيما في مناطق شرق وجنوب شرق آسيا والاتجاه الجغرافي ذاته في أفريقيا .وهؤلاء أختطُّوا طريق أسلافهم الأوائل في هذا المنحى - منذ فجر الاسلام - حين أدخل أولئك هذا الدين الى تلك المناطق ، اما بالتجارة واما بالتعليم والارشاد والدعوة الحسنة . وأبرز رموز هذه الفئة هم السادة الحضارم .

أما النوع الثالث فهم الهاربون من جحيم الحُكم الاِمامي - على عهدَيْ يحيى حميدالدين ونجله أحمد - واضعين على كواهلهم مهمة وطنية جسورة تتمثل في كشف مثالب ومظالم ذلك النظام ، والدعوة الى مؤازرة الحركة الداعية الى قلبه أو الثورة عليه بشتى الوسائل الممكنة . واِذْ حقَّق بعض هؤلاء ضرباً من الثروة ، فأنهم بدَّدوها - كلها أو معظمها - على هذه المهمة . والمثال الأبرز هنا : المجاهدان الكبيران أحمد عبده ناشر ويحيى حسين الشرفي .

غير أنه من المُنصِف الاشارة الى أن عدداً من الدعاة الى تعاليم الاسلام كانوا في الوقت نفسه من خيرة الداعين الى نصرة القضية الوطنية بشتى الوسائل - السلمية منها والنارية - كمثال الرمز الوطني والديني الكبير الشيخ عبدالله علي الحكيمي . والأمر نفسه ينطبق على المهاجرين من فئة رأس المال من الوطنيين الأحرار الذين أنفقوا أموالاً طائلة على الحركة الوطنية وأنشطتها المختلفة . والأمثلة في هذا المضمار لا تُعَدّ ولا تُحصى ، وما عبدالغني مطهر الاَّ نموذج بارز القسمات .

المشهد نفسه يتكرَّر لدى المهاجرين من المناطق التي كانت ترزح تحت وطأة نار ونير الاحتلال البريطاني في الجنوب اليمني . كان هؤلاء يكدُّون في بلاد الهجرة ويتكبَّدون مآسي الاغتراب ، فيما هم يرنون بمآقٍ دامعة وبقلوب دامية الى أوضاع أهليهم في الوطن يعانون أسوأ صنوف القهر والظلم والاضطهاد من قوات الاحتلال وركائزها المحلية في السلطنات والامارات المختلفة .

وقد عاد عديد من أولئك المهاجرين الوطنيين الأحرار الى حيث يلتقي الثوار لمقارعة العملاء والاستعمار . ففي لحظة تاريخية فارقة تركوا بلدان الهجرة وعادوا الى مدنهم وقراهم لاستلال السلاح وفتح جبهات القتال ، لاسيما بعد أن أنتصرت الثورة السبتمبرية في الشمال اليمني ، فقد غدت هذه الثورة الأُم سنداً مكيناً ومدداً معيناً للثورة الأكتوبرية ، وبفضلها تمكَّن ثوار الجنوب اليمني من خوض الكفاح المسلح بكل ثقة واصرار وعنفوان حتى نيل الحرية والاستقلال .

ولعلَّ الفدائي البطل علي أحمد ناصر " عنتر " من أبرز الأسماء في هذا المشهد ، باعتباره ذاك المهاجر في الكويت والثائر في الوطن والقائد بعد الاستقلال .

ان لليمنيين أسفاراً خالدة في أسفارهم الماجدة منذ زمن بعيد . يترحَّلون الى أقاصي العالم بجهاته الأربع وعيونهم شاخصة وقلوبهم نابضة بمعاناة شعبهم ووطنهم ، يتحينون الفرصة المواتية للعودة بُغية التشمير عن سواعدهم ، اما للوقوف في وجه الحاكم الظالم أو المحتل الغاشم ، واما للاسهام في بناء البلد وتنمية المجتمع ، باذلين ما استطاعوا من جهد ومن مال ، دونما انتظار لمسة جزاء ولا كلمة ثناء .

لقد قرأتُ كثيراً في سِفْر الهجرة فأجدني دائماً كأنَّني أقرأ في سِفْر الثورة . فقد كان المهاجرون اليمنيون على الدوام خير عون وعظيم سند للثورة والثوار في 1948م و1962م وما بينهما وبعدهما ، في شمال اليمن وجنوبه .