ربيع بلا ديمقراطيين سُحقت أزهاره مبكراً

في الذكرى السادسة لأحداث الربيع العربي، هل صرنا قادرين على النظر لما حدث من زوايا جديدة؟

مع بلوغ الإنتفاضة الشعبية ذروتها بهروب الرئيس التونسي بن علي في ديسمبر 2010 ، واعتصام المصريين في ميدان التحرير في يناير 2011، كانت الدبلوماسية والإعلام الغربيين قد أطلقا على الأحداث اسماً غريباً على الأذن العربية: "الربيع العربي".

لكن الجماهير التي تدفقت إلى الميادين في اليمن، مصر، سوريا، تونس وليبيا فضلت اسماً آخر: "الثورات العربية". ثم استخدم الإسمان معاً لوصف الأحداث العاصفة التي استمرت حتى منتصف 2013 لتتحول في الأدبيات العربية إلى اسم هجين هو: "ثورات الربيع العربي".

لكن مصطلحي "الثورة" و"الربيع" خرجا من إطارين مرجعيين مختلفين، ولا يمكن أن يعبرا عن نفس المعنى.

كان الغرب يفكر في إطار لحظة مرجعية معينة هي "ربيع براغ" 1968م. وهي جملة الأحداث التي وقعت في تشيكوسلوفاكيا السابقة على يد الأمين العام للحزب الشيوعي "الكسندر دوبتشك" للتحفيف من إرث الستالينية عبر مزيد من الإجراءات الليبرالية: حرية الصحافة، وحرية التنقل والهجرة، ولامركزية الاقتصاد، والتحول للفيدرالية كخطوات تدريجية للعودة إلى التعددية السياسية خلال 10 سنوات.

أثارت الإصلاحات حراكاً شعبياً واسعاً في الشارع التشيكوسلوفاكي. بدأ الناس نشاطاً محموماً لإصدار الصحف وإنشاء النقابات والحوار السياسي، وهو ما أثار مخاوف الكتلة الاشتراكية التي رأت فيما يحدث تخريباً للمعسكر الشيوعي من الداخل.

نتيجة لذلك تدخل حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي لسحق ربيع براغ بألفي دبابة وربع مليون جندي. تم القبض على دوبتشيك الذي قال عبارته الشهيره: "يمكنك أن تسحق الأزهار لكنك لن تؤخر الربيع". استمرت المقاومة المدنية حتى سقوط النظام الشيوعي عام 1989 كانت تلك السنة ذروة ربيع أوروبا الشرقية الذي شهد سقوط الأنظمة الاستبدادية والتحول الديمقراطي الليبرالي.

في الناحية الأخرى كان الإطار المرجعي للمحتجين العرب هو الثورات والانقلابات العسكرية التي أطاحت بالأنظمة المحافظة في الخمسينات والستينات وكانت بداية مد قومي ويساري واسع. حققت تلك الثورات إنجازات مهمة على الصعيد الاجتماعي، لكن الحرية والديمقراطية لم تكن على أولوية اهتماماتها، واصطنعت تناقضاً رئيسياً بين الحرية والعدالة وبين الديمقراطية والخبز، وظلت "العدالة الاجتماعية" و"الوحدة" بالنسبة لها هي المطالب الجوهرية للتغيير.

ورغم أن المطالبة بإقامة دولة مدنية ديمقراطية كانت ضمن الشعارات الرئيسية للربيع العربي، إلا أن هذا المطلب سرعان ما تراجع بعد سقوط رؤوس النظام في مصر وليبيا واليمن وتونس لتحل محلها شعارات "الشرعية الثورية"، و"العزل السياسي"، و" الديمقراطية الموجهة"، و"الحسم الثوري"، و"تصفية بقايا النظام".

وعادت من جديد تلك النغمة التي ترى أن الشعوب العربية ليست جاهزة بعد للديمقراطية، وأن الأولوية لبناء النظام الجديد وليست للحريات السياسية والمدنية. ووصل الربيع العربي إلى نقطة القطيعة مع مطلب الحرية والديمقراطية مع سيطرة الديكتاتورية العسكرية في مصر، وسيطرة جماعة مسلحة بأفكار خمينية على السلطة في اليمن، واستيلاء السلفيات الجهادية على احتجاجات الشارع في سوريا.

إذا أخذنا اليمن نموذجا فإن "ثوار" القوى السياسية التي شاركت في الاحتجاجات تراجعت عن مطالبها الديمقراطية ما أن رحل الرئيس السابق عن السلطة. دشن حزب الإصلاح ما أسماه ثورة المؤسسات لإحكام سيطرته على كل ما يمكنه السيطرة عليه من مؤسسات الدولة، وكان الحوثيون في صعدة يصوغون وثيقتهم الفكرية والثقافية التي تؤكد على حصر الحكم والاجتهاد في أولاد علي من فاطمة، وعلى الاصطفاء الإلهي لآل البيت، وكانت أحزاب اللقاء المشترك الصغيرة تتحول من أحزاب معارضة إلى أحزاب سلطة تتحلق نشاطاتها حول التأييد غير المشروط لسياسات الرئيس التوافقي، والرئيس التوافقي يشرع في بناء مشروعه العائلي الخاص وتمكين أولاده وأقاربه من مفاصل السلطة، والدول العشر الداعمة تتفق على تأجيل الانتخابات والتحول الديمقراطي والتمديد للرئيس التوافقي هادي إلى أجل غير محدد.

وأصبحت اللحظة سانحة لتحالف انقلاب 21 سبتمبر 2014 لاجتياح العاصمة وإسقاط الجمهورية.

حمل الربيع العربي بذور فنائه في عدم إيمان قواه الرئيسية بقضية الديمقراطية والحرية كمدخل ضروري لأي نهضة.

كان ربيعاً بلا ديمقراطيين سُحقت أزهاره مبكراً، وربما تتأخر عودته إذا لم نفهم جيداً أين أخطأنا وكيف ننهض من جديد وعلى الطريق الصحيح.