المجتمع اليمني ما بين السلطة والإكتئاب

إحدى طرق ملاحظة العلاقة بين الإكتئاب والمنافسة تتمثل في العلاقة الإحصائية المتبادلة بين معدلات  التشخيص ومستويات التفاوت الإقتصادي والطبقي في المجتمع،  فوظيفة التنافس هي إنتاج عائد غير متساوٍ، وقد سجلت المجتمعات الأكثر مساواة مستويات اكتئاب أقل ومستويات رفاهية أعلى، في حين يتفشى الإكتئاب في المجتمعات التي تعاني عدم المساواة بصورة حادة، ونحن كمجتمع تنعدم فيه المساواة أصبح الإكتئاب هو المسيطر، ولم يقتصر الوضع على حالة عدم المساواة التي أصبحت مسيطرة وتنعكس من الأعلى إلى الأدنى، إنما حالة الفقر المعدم وتفاوت الطبقات وعودة ثقافة السيد والمسود والعوامل النفسية المرعبة وتفكك النسيج الإجتماعي وانعدام القيم الأخلاقية التي خلفتها الحروب جعلت أكثر من 95% من سكان اليمن يعانون من الإكتئاب..

الأمر الذي عكس نفسه على الطبقة السياسية والممسكين بالقرار وبحالات متفاوتة فمنهم من وصل إلى حالة يصعب معالجتها لأنهم أساساً يعانون من أمراض نفسية سابقة ولدت لديهم حالة انتقامية من كل أفراد المجتمع لأنهم يشعرون أن هذا المجتمع نبذهم في فترات سابقة ومارس عليهم كل أنواع الظلم والإضطهاد وظل صامتاً أمام حروب كثيرة ضدهم، لذا اعتبروا وصولهم إلى السلطة عدالة سماوية لتمكينهم بالحق الإلهي وتحقيق عدالة السماء فأصبح من الواجب عليهم تنفيذ التعاليم الدينية والأخلاقية التي ناضلوا وقدموا التضحيات لتحقيقها، ومثل ما مكنهم الله من ذلك أصبح لزاماً عليهم فرض هذه الثقافة والمعتقد الذي يرون فيه مخلصاً للبشرية ومخرجاً لها من الظلمات إلى النور.

 ولعل المراحل والمنعطفات الصعبة التي مرت بها الثورة اليمنية منذ 1962 وحالة التراجع في تحقيق أهدافها وسيطرة القوى القبلية عليها ومرحلة الإحباط الذي صاحب تحقيق الوحدة اليمنية في 1990 ومأساة حرب صيف 1994 وتحالف القوى القبلية مع الدينية على حساب القوى اليسارية التقدمية عزز من حالة التفاوت الطبقي والإقتصادي الذي أدى إلى حالة ازدياد في أعداد الفقراء وعدم الثقة بالوحدة والقائمين عليها وولّد حالات نفسية مكتئبة عزز بداخلها الكراهية والشعور بالاضطهاد والإحساس بالدونية التي أشعلت شرارة الثورة التي تحمل في طياتها التربص لتحقيق الإنتقام أكثر مما تكون ثورة تصحيح وإصلاح الإختلالات التي أحدثتها الممارسات الخارجة عن أهداف الثورة الأم.

لأن مكونات تلك الثورة هي بالأساس متناقضة وأغلبيتها تعاني حالة انفصام و ما إن تمكنت من إسقاط السلطة حتى اتجهت إلى صراع فيما بينها وتصفية حسابات لتكون النتيجة فشلت جديدا للثورة التي كانت تهدف لتصويب مسار الثورة الأم والدخول في حسابات وتصفيات معقدة، وصعود مجاميع إلى زمام السلطة تفتقر للخبرة في إدارة الدولة وتعاني من حالات نفسية معقدة نتيجة معاناة سابقة.

 الأمر الذي حول المظلوم إلى ظالم والمسجون إلى سجان ويصبح اليمن ساحة حرب وتصفية حسابات داخلية وإقليمية ودولية، وتحولت السلطة بذلك ألى سلطة انتقامية من الجميع حتى من أنفسهم دون أن يدركوا أن ممارسة الإنتقام تولد انتقاماً أكثر داخل المجتمع وتحوله من مجتمع حاضن إلى مجتمع طارد وتزيد من حالة الاكتئاب والإحباط، ولعل الإنعكاسات التي مارسها الممسكون بالسطلة في الشكليات والتخلي عن أساسيات مهام السلطة تفصح عن حالة الإنفصام وفرض رؤيتهم الخاصة عكس ما كانوا يطرحونه قبل وصولهم للسلطة في تحقيق المساواة والعدالة.

 بل ذهب بهم الحال إلى سفاسف الأمور وتحويلها إلى هدف استراتيجي لهم تلخصت في فرض المحرم على النساء في الأماكن العامة ووسائل النقل وارتداء النقاب وحتى شكله ومواصفاته وكل هذه الأمور تعكس حالة تراكم نفسي، أبعدتهم عن مهام الدولة الأساسية تجاه المجتمع الذي غابت كل حقوقه وفرضت عليه كل الواجبات القانونية وغير القانونية، كل هذا لم يكن وليد المرحلة بل نتيجة تراكمات سابقة وعدم منح ميزات خاصة للعقلية الفردية التنافسية بكل شؤون الحياة، وانما غلب عليها فرض نمط معين ووضع خطوط حمراء حول الدين والعادات والتقاليد الحسنة والمتخلفة وغيرها وعدم تجاوز تلك الخطوط أو الخروج عنها لتصبح البيئة المجتمعية خصبة لتلك الأفكار المتشددة والمتخلفة.

لقد أصبحنا في وضع نعجز عن الإتفاق فيه على ما يعد خيراً وما يعد شراً لأن المسألة برمتها منظور شخصي أو ثقافي يتحكم فيه فرد أو أفراد وتغلبت المصالح الشخصية والفئوية على المصالح الوطنية.

إن جوهر إرث ما قبل ستينيات القرن الماضي  وإرث ما قبل 1990 وعودته هي من المستحيلات حتى وإن شعرت اي جماعة بأن الظروف قد تهيأت لها، فهي حالة مؤقتة قد يستفيق الشعب من سباته قريباً ولن تستمر.

* دبلوماسي وسياسي يمني