عندما يزهر الربيع في الوطن الكبير

ظلت المنطقة العربية رهن الصراعات بين الحضارات من الجانب الجغرافي والسياسي عبر العصور، وتعتبرً القومية أيضا حالة من حلات الصراعات الرمزية، ولعل الأيدلوجيات التي تأثرت بها أغلب المجتمعات العربية بعد الحرب العالمية الثانية وعكست نفسها على الأنظمة ما بين جمهوريات وملكيات، وتنافس المعسكرين الغربي والشرقي على النفوذ فيها وحالة الصراع العربي الصهيوني، وعدم التوازن بعد انهيار المنظومة الإشتراكية وتأثيرها على الواقع العربي المنقسم أصلاً ما بين الرأسمالية والإشتراكية، إضافة إلى وجود الإنقسامات العقائدية والمذهبية والتفاوت الطبقي، وتسيد الرأسمالية...

لعل كل ذلك هو ما شكل حالة اللااستقرار ونمو الحركات الأصولية التي يدعمها الغرب ويستخدمها في تنفيذ مخططاته في المنطقة للإطاحة بالأنظمة المارقة  أو الخارجة عن خط النظام العالمي الجديد كما صنفها ، مستغلاً حالة الشباب العربي الذي يعاني الفقر والبطالة مما سهل عليه عملية الفوضى الخلاقة التي رأى فيها فرصة لكي تكون هذه القوى الموسومة بالتشدد والإرهاب في طليعة الثائرين على الأنظمة العربية التي قرر الغرب إسقاطها تحت عنوان ما سمي بثورات الربيع العربي الذي أوقع عددا من الدول العربية في فخ المؤامرة المرسومة أصلاً من الغرب.

 ليشهد الوطن العربي سنوات سوداء مليئة بالدماء والخراب والعزلة والإنقسام كمرحلة هي الأصعب في تاريخه تجاوزت العقد من الزمن ، ودفع ثمنها كل أبناء الامة العربية دون استثناء مع تفاوت حجم الثمن من قطر إلى آخر، وبشكل خاص سورية واليمن وليبيا والعراق ولبنان.

ومع مشهد المتغيرات الدولية تصحو الإرادة العربية التي خاضت فترة مراجعة لكل المتغيرات الدولية لتنتقل إلى مشهد آخر يشكل حالة من صنع المتغير الدولي ، متجاوزة التحديات ومترفعة عن الجراحات منفتحة ومستفيدة من تجاربها، ليبدو المشهد العربي اليوم الذي تقوده المملكة العربية السعودية كدولة إقليمية لها ثقلها السياسي والإقتصادي ضمن رؤية استراتيجية بانفتاحها على الشرق واتفاقها مع محيطها الإقليمي ما يعطيها أريحية في التوجهات الإستراتيجية العربية وتأمين محيطها العربي الذي بدوره سيعزز قوتها الإقليمية والدولية وإعادة اللحمة العربية من خلال إحلال السلام في اليمن وردع الصدع العربي بعودة سورية إلى الجامعة العربية والتي تلاقي تأييداً من أغلب الدول العربية حيث بادرت دولة الإمارات العربية الى الإنفتاح على سورية منذ 2018 وقامت بدور الوسيط إضافة إلى الدور المميز لسلطنة عمان على المستوى العربي في الأزمة السورية ، والوساطة في إحلال السلام باليمن وتقريب وجهات النظر.

وبعد أن اتخذت السعودية قرار إنهاء الحرب في اليمن وعودة سورية للجامعة العربية أتت زيارة وزير الخارجية السورية إلى الرياض ودعت المملكة إلى قمة خليجية بمشاركة العراق ومصر يحمل جدول أعمالها فقط مناقشة عودة سورية للجامعة العربية وكان الإجماع على هذا القرار.

إن التغيرات الرئيسية التي حصلت في الممارسات الدبلوماسية السعودية عكست نفسها على الوطن العربي والمنطقة وعززت من المتغيرات الدولية نحو القوى المتحركة المتمثلة في الكتل الدولية التي تعكس الجهود المبذولة لإيجاد كتل وجماعات جديدة في المنظومة الدولية التي أصبحت لاعباً رئيسياً فيها، فالدبلوماسية العربية اليوم تتجه نحو  متغير إيجابي يتجاوز آخر حلقات مؤامرة التفتيت الأمريكية التي استهدفت سورية وعدداً من الأقطار العربية، نحن اليوم أمام بناء للدبلوماسية العربية يتم ضمنها تأسيس قسم كبير من الجوانب التنظيمية للمجتمع الدولي ومراجعتها، ما يوفر بيئة مناسبة أو سياقاً مناسباً للمتغيرات الدولية.

لقد بات الإجماع العربي جزءاً رئيسياً من تلك المتغيرات، وستدفع نحو السياسات الداخلية والخارجية دفعاً مبنياً على دعامتين، القوة الإقتصادية المتمثلة بسلاح الطاقة والمنافع العامة الأخرى والموقع الجغرافي الهام ، وستحقق بطبيعة الحال الإصلاح أو التغيير الداخلي أيضاً والذي كان سبباً في إثارة الفوضى التي اجتاحت الوطن العربي فيما سمي بالربيع العربي والذي قاد إلى حالة الفرقة والدمار والإنهيارات الاقتصادية. 

العالم يتغير ونحن جزء من هذا العالم ، ومثل ما تجاوزت الأمم الأخرى صفحات سوداء بعد حروب مدمرة ، أرى أن وطننا العربي يتجه اليوم نحو غد مشرق في ربيع مزهر يطوي معه كل عوامل الفرقة بعد أن ذهب ربيعهم الزائف لنصنع بأيدينا ربيعاً نقول من خلاله لكل من راهن على استمرار فرقتنا واستغلال مقدراتنا وتدمير أقطارنا، هذا هو ربيعنا، "إذا حلَّ فرشنا له السماء شِعراً، وإذا غاب نادينا أين أنتَ يا ربيعُ، فالربيع من الحبِّ أحسنه ومن العمر أمتعه، وللأوطان أفضل أحوالها إذا لبست ربيعاً. وفي قلب كل شتاء ربيع يختلج، ووراء نقاب كل ليل فجر يبتسم....  قلةٌ من يفهمون أن جنون الربيع إنما هو وليد حزن الخريف".

*دبلوماسي وسياسي يمني