قراءة وحدوية في المشهد العربي الراهن في ذكرى ميلاد الوحدة بين مصر وسوريا

لم تكن الوحدة العربية عند الوحدويين الحقيقيين مجرد شعار يرفع في المناسبات، أو هدف يتصدر البيانات والبرامج والمشاريع، ولم تكن حتى فكرة نواجه بها أفكارا أخرى، بقدر ما كانت أيضاً نهجاُ وسلوكاً وثقافة وترفعاً مستمراً عن الحسابات الضيقة

كما لم تكن الوحدة العربية يوماً بديلاً عن الوحدة الوطنية داخل كل قطر، أو عن الوحدة الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي، كما لم تكن أبداً ذريعة لكي يتحكم قطر كبير بقطر صغير، ولم تكن بشكل خاص امتداداً لنفوذ نظام أو جماعة أو حزب على قطر آخر

والمشهد العربي الراهن، بكل ما فيه من آلام وأحزان وفتن ودمار وخراب لم ينشأ بسبب تراجع العمل الوحدوي، والدعوة الوحدوية، والفكر الوحدوي فقط، بل أيضا بسبب تشويه وتزييف مارسه بعض رافعي الشعارات الوحدوية، فيما هم غارقون في ممارسات قطرية وانقسامية وفئوية وشخصية

ولا أنسى كيف أن جماعة الانفصال في دمشق عام 1961، رفعوا شعارالوحدة الشاملةليتبرأوا من الوحدة الثنائية بين مصر وسوريا، بل كيف رفع أيضاً البعض الآخر شعار الديمقراطية ليبرروا الانفصال، فخسرت سوريا يومها الوحدة ولم تربح الديمقراطية

تبدو هذه المقدمة، ضرورية لكي نؤكد انه ليس وحدوياً بالضرورة كل من يرفع شعار الوحدة، تماماً، كما هو ليس ديمقراطياً بالضرورة من ينادي بالديمقراطية، وليس اشتراكياً بالضرورة من أن يملأ الدنيا صراخاً بالاشتراكية، وليس إسلاميا بالضرورة أيضاً بكل من يتحدث عن الإسلام هو الحل فيما كل ممارساته بعيدة كل البعد عن الإسلام….

فالوحدوية الحقة هي تلازم الفكر مع الممارسة، والغاية مع الوسيلة، والاداة مع الأهداف، وكل ما يصيب المشهد العربي الراهن من مآسٍ ومحن ودمار وخراب لا يعود فقط إلى حجم التآمر الخارجي على الأمة، بل أيضاً على ذلك الانفصال المريع بين الغايات والوسائل، بين الأفكار الرفيعة والوسائل الوضيعة.

في ضوء هذه المنطلقات المبدئية نقرأ بعين وحدوية سمات المشهد العربي الراهن ونقترح معاً معالجات لما يعتورها من سلبيات، وأفكار لتعميق ما تحمله من ايجابية.

السمة الأولى: تكامل التآمر الخارجي والاحتراب الداخلي،  لا يتسع المجال هنا لتعداد المشاريع والأحلاف والمخططات الاستعمارية التي استهدفت تجزئة الأمة إلى أقطار وكيانات وتقسيم الأقطار إلى هويات فرعية متناحرة، وتفتيت المجتمعات إلى جماعات عرقية أو طائفية أو مذهبية  تحاول إلغاء بعضها البعضويكفي أن نذكر هنا وعد بلفور في ذكراه المئوية، ومعه سايكس بيكو، وحلف بغداد، ومشروع إيزنهاور، وصولا إلى مشروعالشرق الأوسطالذي بدأ مع شمعون بيريزجديداًلينتهي مع جورج بوش الابن كبيراً يدخل المنطقة بأسرها من خلال احتلال العراق، ويحاول دخولها مجدداً من خلال حرب 2006 على لبنان، والحروب المتواصلة على فلسطين في غزة وعلى امتداد الأراضي المحتلة.

في هذا المجال، لا بد من التأكيد على إن هذه المخططات الاستعمارية الصهيونية ما كان لها أن تحقق بعض غاياتها، لولا نجاحها في إيجاد بيئات داخلية في وطننا العربي تحتضن موجات الاحتراب الأهلي والتكفير العقائدي والتناحر الداخلي والإقصاء المتبادل بين المكونات السياسية والاجتماعية ومحاولات اقتلاع شعوب واجتثاث حركات ومصادرة الحد الأدنى من الحريات الخاصة والعامة

في مواجهة هذه الموجات العدائية الخارجية والداخلية لا بد من اعتماد رباعية، أسميتها بعد احتلال العراق برباعية الخلاص وهي اولاً المقاومة لدحر الاحتلال وإفرازاته ومخططاته، وثانياً المراجعة لكي تحدد كل جهة أو جماعة الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها، وثالثاً المصالحة التي تنطلق من فكرة رفض الإقصاء والإلغاء والاجتثاث، كما من آية قرآنية عظيمةمحمد رسول الله ومن معه أشداء على الكفار رحماء بينهمفيما نجد أن القاعدة المعمول بها من قبل العديد من حكامنا وأنظمتنا وجماعاتنا هي الشدة بين أبناء الوطن والرحمة بل التحالف مع أعداء الوطن، وهذا ما نراه جلياً في الأحلاف والمشاريع  التي تسعى واشنطن إلى نسجها بين العدو الإسرائيلي وبين حكام عرب بأسماء متنوعة.

أما رابع الابعاد في هذه المعادلة فهو التتمة الطبيعية للمقاومة والمصالحة، والمراجعة والذي يتمثل في المشاركة التي بدونها لا تصان مجتمعات ولا تحمى أوطان.. بل بدونها لا ضمان لأي جماعة أن تحمي نفسها من الإقصاء إذا اندفعت هي في نهج الإقصاء لغيرها

السمة الثانية: الضياع في تحديد الأولويات، وهو ضياع تبدى في العقود الماضية في المجال العقائدي أو الفكري حيث جعل كل فريق منا لنفسه عقيدة نابذة لغيرها من العقائد والأفكار، وهدفاً رافضاً لغيره من أهداف الأمة، فدخلنا في صراعات حزبية وطائفية ومذهبية وعرقية خرج الجميع منها خاسراً، وتناسينا، عن قصد أو غير قصد، العدو الرئيسي للأمة أي المشروع الصهيوني والاستعماري القائم على تفتيت المنطقة، وتشريد شعوبها، ومصادرة مواردها وتمزيق وحدتها

 في ظل هذا الضياع في الأولويات ازدهرت أفكار قطرية، ونعرات طائفية ومذهبية وعرقية، وارتفعت شعارات من نوعقطري أولاًأوطائفتي أولاًأومذهبي أولاًوبدأ حشد القوى بأبشع الأساليب لإطلاق حروب قد نعرف كيف بدأت ولكننا لا نعرف كيف ستنتهيبل في ظل هذه الشعارات لم تتراجع الوحدة، وطنية كانت أم قومية أو إسلامية فقط، بل جرت محاصرة كل دعاة الوحدة على أي مستوى كان ومحاصرتهم كأفراد وحركات ومؤسسات، سياسياً ومادياً واعلامياً وامنياً، بل وشيطنة رموزهم واتهامهم من كل طرف بأنهم في خدمة الطرف الآخر

بل في ظل هذه الأولويات سادت المشهد العربي، منذ عقود، لغة التخوين والتشهير حتى وصل بنا الأمر مع جماعات الغلو والتطرف والتوحش إلى تكفير الآخر ممن لا يحمل فكره أو يحذو حذوه ولو كان من الدين نفسه، ومن  المذهب عينه

إن مواجهة هذه الظاهرة لا سيما بعد تفشيها الدموي المرعب، لا ينحصر بالجانب العسكري والأمني، على أهميته، ولا بالجانب السياسي رغم ضرورته، بل ينبغي ايضا المواجهة الثقافية والفكرية والأخلاقية لاقتلاع هذه الأفكار الفوضوية  المريعة من حولنا، وهي مواجهة تنطلق أساساً من إعادة الاعتبار لمنطق الوحدة، وثقافة الوحدة، والسلوك الوحدوي من اصغر خلايا المجتمع إلى كل دوائره المتتالية

وثقافة الوحدة هي بالضرورة ثقافة الحوار الذي يفترض بالضرورة قبول الرأي الآخر، جماعة كان أم فرداً، وقبول الرأي الآخر يعني بالتأكيد إقرار بوجود تباين واختلاف، كما يقتضي إدارة هذا التباين والاختلاف تحت سقف الوحدة لا على حسابها ولا بالتأكيد في وجهها….

قد يبدو الكلام بعيدا عن واقع نعيشه في العديد من أقطارنا، ولكنني اعتقد إن ثقافة الحوار والإقرار بحق الآخر بالاختلاف معك، قد بدأت تتلمس طريقها إلى قلوب الناس وعقولهم، بعد أن أكتشف كثيرون إن الطرق الاخرى طرق الإقصاء والاحتراب قد أدت إلى خراب لم ولن ينجو منه أي فريق مهما تصور هذا الفريق انه يمتلك  في لحظة معينة قوة كافية لإلغاء الآخر.

السمة الثالثة: تخبط في إدارة العلاقات على مستوى الاقليم بين الأمة العربية ودول جوار حضاري تمثل عمقاً استراتيجياً لها في مواجهة كل التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية بل والوجودية التي تواجهها

وكما تمر العلاقات بين الأقطار العربية ذاتها، أو بين الجماعات المكونة لكل قطر، بمراحل ايجابية تمر أيضاً بمراحل سلبية، وكذلك العلاقات بين العرب والأمم المجاورة ( كإيران وتركيا، وأثيوبيا، وجول الصحراء الإفريقية) التي تمر أيضاً بصعود وهبوط، بل بتوترات قد تؤدي إلى حروب والى تدخلات في الشؤون الداخلية لهذه الأمم والشعوب.

وعلينا أن نعترف ونحن نقرأ المشهد العربي الراهن إن علينا كعرب، وكأمم متجاورة، أن ندرك حقيقتين نبني عليهما علاقات حسن الجوار وتكامل المصالح بين هذه الأمم المتجاورة..

الحقيقة الأولى: إن الأمم المتجاورة تمثل عمقاً استراتيجياً وحضارياً وروحياً لبعضها البعض، بل إن تكامل أدوارها ومصالحها مع الاحترام المتبادل لخصوصية كل منها وسيادة دولها، يؤدي إلى قيام منظومة  إقليمية كبرى في هذه المنطقة من العالم تمتلك كل مقومات الاستقلال والتنمية والأمن القومي، بل إلى إقليم يكون لاعباً قوياً على المسرح الدولي بدلاً من أن يكون مجرد طابة في ملعب تتقاذفها لمصالح الدول العظمى واستراتجياتها

أما الحقيقة الثانية فهي أن تدرك الأمم المجاورة لامتنا العربية، إن هذه الأمة من فرط ما عانت في تاريخها القديم والحديث من مطامع خارجية، وحروب استعمارية، ومشروع هيمنة، قد باتت أسيرة جملة هواجس ومخاوف مشروعة أحيانا، وغير مشروعة أحيانا، يجعل الكثير من أبنائها  يتوجسون قلقاً وحذراً من أي خطوة من هذه الجهة أو تلك فتتحرك فيها حساسيات تاريخية ومصادر قلق وجودي لا بد من معالجته.

في ضوء هاتين الحقيقيتين لا بد من تجنب سياستين خطيرتين تحكمان علاقة دول الجوار بالعرب، وعلاقة العرب بدول الجوار.

 السياسة الأولى هي عدم التمييز بين الشعوب والحكام، بل بين الروابط العميقة والمصالح الثابتة من جهة وبين السياسات  الراهنة من جهة ثانية..

فإذا كان لبعضنا اعتراض على سياسات حكام تركيا أو إيران أو أثيوبيا، أو حتى على بعض زعماء الكرد، فهذا يجب أن لا يقودنا إلى شن حملات ذات طابع عنصري أو طائفي أو مذهبي على شعوب تلك الدول، فالخلافات بين الحكام مهما كانت محتدمة هي عابرة…. أما الصراعات على مستوى الشعوب فيصعب معالجتها مهما طال الزمن

ولنا في تاريخنا القريب والبعيد العديد من الأمثلة….

أما السياسة الأخرى فهي حين يؤدي الاختلاف أو الصراع مع هذه الدولة المجاورة أو تلك إلى نسيان قضية كبرى تجمعنا إلى جانب المصالح المشتركة واعتبارات الأمن الإقليمي للمنطقة بأسرها

هذه القضية هي قضية فلسطين، بكل ما تنطوي عليه من احتلال ارض، وظلم إنساني، وتطهير عرقي، وتهويد لمقدسات إسلامية ومسيحية، التي تثبت الأيام انه كلما ابتعدنا عن بعضنا كعرب وأمم مجاورة ابتعدنا عنها، وكلما ابتعدنا عنها فقدنا أهم رابطة تجمعنا.

للخروج من متاهات فوضى العلاقات مع دول الجوار، بأفق عقلاني ووحدوي، لا بد من التأكيد على متانة العلاقة بين الشعوب، أيّاً كانت الخلافات على مستوى الحكام، وهي بالمناسبة خلافات موجود مثلها داخل الأمة العربية وعلى مستوى الأمم المجاورة، ومن السعي لإعادة الاعتبار لقضية فلسطين إلى الصدارة من نضالنا لا باعتبارها قضية عادلة ومحقة فحسب، بل أيضاً باعتبارها قضية جامعة للعربي والإيراني والتركي والكردي والامازيغي وللمسلم والمسيحي واليهودي غير الصهيوني ولأحرار العالم كافة..

السمة الرابعة: هي الفوضى والتراجع في مؤسسات العمل العربي المشترك

لا اعتقد انني أضيف إلى معلومات أي عربي شيئاً حين أتحدث عما أصاب العمل العربي المشترك ومؤسساته من وهن وضعف وترد حتى وصل الأمر بأكبر مؤسسات العمل العربي المشترك، جامعة الدول العربية، لتتحول إلى غطاء لحروب على دول عربية وفيها، والى أداة إلى الاستقواء بالأجنبي عليها، بل إلى شرعنة الاحتلال الأجنبي لدول مؤسسة فيها..

أليست هذه قصة العراق مع جامعة الدول العربية حين تواطأ بعض أركانها في الحرب عليه (2003)، ثم حين شرعنت حكومات الاحتلال ، وقصص ليبيا مع الناتو وسوريا مع دعم الحروب فيها واليمن مع التغطية على الحرب المجنونة ضد شعبه، حتى لا نذكر لبنان الذي بقيت أرضه محتلة منذ عام 1978، دون أن تنعقد قمة عربية أو مجلس الجامعة للتنديد بالغزو عام ،1982 لو لدعم مقاومته التي أثبتت أنها الطريق الوحيد لتحرير الأرض عام 2000 بعد أن ظهر بوضوح عجز القرارات الدولية لا سيما القرار 425 الصادر عام 1978.

لقد كان مأخذ بعض الوحدويين العرب على هذه الجامعة، وعلى كل مؤسسات العمل العربي أنها وجدت لتعطيل النضال العربي من اجل الوحدة، واليوم يجمع الوحدويون العرب على أن مهمة هذه الجامعة ومعها المؤسسات كافة، لا سيما في السنوات الأخيرة، باتت تفتيت الكيانات الوطنية واحتضان الاحتراب الأهلي وتسويغ التدخل الخارجي، مما جعل العديد منهم يتساءل عن جدوى وجودها أيضاً.

بين الوحدويين العرب، وأنا منهم، من له قراءة مختلفة (خصوصاً بعد التحولات الايجابية في سياسات بعض الدول تجاه الأزمتين السورية والليبية لا سيما في مصر والجزائر وما لهما من تأثير في الحياة العربية).

يركز صحاب هذه القراءة على ضرورة النضال الشعبي والرسمي لإعادة تفعيل جامعة الدول العربية ومؤسساتها وتحريرها من سطوة أصحاب المال عليها، وإعادة التزامها بميثاقها الذي قامت عليه وهو تفعيل يبدأ بأمرين أساسيين:

  • عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة، بعد قرار تعليق عضويتها، وهو قرار يخالف ميثاق الجامعة وأنظمتها ومحاسبة كل من تسبب بإصدار هذا القرار الجائر بحق دولة عضو مؤسس في الجامعة، وشعب كان له الباع الطويل في حمل قضايا الأمة والدفاع عنها.
  • إعادة الاعتبار لمعاهدة الدفاع العربي المشترك، المرتبطة أيضاً بالسوق العربية المشتركة ، بما يعيد الصراع إلى جذوره الحقيقية ضد العدو الصهيوني المغتصب لأرض عربية وبما يؤسسه لوحدة اقتصادية عربية هي طريق الأمة إلى التنمية والازدهار.

السمة الخامسة: ضعف قراءة المتغيرات الدولية المتسارعة:

مع بداية الحروب الأمريكية على العراق (1991-2003)، وما رافقها من حصار ظالم أودى بحياة أكثر من مليون طفل عربي، وسط صمت رسمي عربي أحياناً وتواطؤ يصل إلى التحريض وتسهيل الطرق لقوات العدوان، أحيانا أخرى، أتسمت القراءة الرسمية العربية، بل قراءة بعض النخب الثقافية والسياسية، بسطحية بالغة حين ظنت أن العالم بأسره، وفي المقدمة منطقتنا قد وقعت في اسرالنظام العالمي الجديدالذي بشر به جورج بوش الأب بعد الحرب الأمريكية الأولى على العراق.

يومها، وفي عام 1991 تحديداً، كتبت في مجلةالمنابرالشهرية، المتوقفة عن الصدور منذ سنوات، إننا لسنا أمام نظام عالمي جديد بل أمام فوضى عالمية منظمة تعبر في جوهرها عن عجز أمريكي على الإمساك في العالم فسيلجأ إلى إشاعة الفوضى على مستوى البشرية جمعاء، ورأينا يومها، في ضوء هذا التحليل، إن إمكانية مقاومة تلك الهيمنة الأمريكيةالصهيونية متاحة وهذا ما كشفت عنها فيما بعد انتصارات المقاومة في لبنان وانتفاضة الأقصى في فلسطين والهزيمة الأمريكية في العراق على يد المقاومة العراقية الباسلة، كما كشف عنها الصمود السوري أمام الضغوط والتهديدات، والصمود الإيراني بوجه تهديدات أمريكية متذرعة بالبرنامج النووي في الجمهورية الإسلامية.

وبعد احتلال العراق عام 2003 وفي ذروة استسلام بعض القيادات الرسمية العربية، وبعض النخب الثقافية العربية، قدم الدكتور زياد حافظ الامين العام الحالي للمؤتمر القومي العربي وعدد من إخوانه  من اعضاء المؤتمر المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية إلى المؤتمر القومي العربي الثالث عشر المنعقد في صنعاء (حزيران/يونيو 2006) أوراقاً تتضمن رؤية مغايرة للتنظيرات السائدة في الوطن العربي وكشفا عن أزمة بنيوية عميقة تعيشها الولايات المتحدة وتهدد قدراتها على الهيمنة على العالموقد بدت تلك الرؤية بعيدة عن الواقع ونوعاً من التحليل الرغبوي إلى أن بدأت الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية تعصف بالدولة الأكبر في العالم وتمنح الفرصة لدول كبرى وإقليمية أن تمارس نوعاً من الاعتراض المتدرج على السياسة الأمريكية، فيما رأت حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق أن بإمكانها الاستفادة من هذا الضعف البنيوي الذي يصيب الكيان الأمريكي والمترافق مع أزمة متصاعدة بدأ يعيشها العدو الصهيوني….

إن مجيء ترامب، بسياساته غير المعقولة، رئيساً للولايات المتحدة، يبقى في النهاية تعبيراً عن حجم الاستياء الشعبي الأمريكي من المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية، كما عن حجم الارتباك داخل الإدارة الأمريكية ذاتها، مما يؤشر إلى احتمال وقوع حرب أهلية أمريكية بين قطاعات أمريكية واسعة مؤيدة بشدة لترامب وأخرى معارضة بشدة له.

حاول ترامب أن يستقوي باللوبي الصهيوني في مواجهته لخصوم يتوجهون إلى محاسبته واخراجه من البيت الابيض عبر ما يسمى  Impeachment على غرار ما حصل مع الرئيس نيكسون عام 1974، وكاد يحصل مع الرئيس كلينتون عام 1994، فكان ذاك الاستقبال المدوي لنتنياهو والتفاهم معه على إسقاط حل الدولتين وتحويل المفاوضات بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية إلى تفاوض من اجل التفاوض، وهي أصلاً السياسة التي حكمت مفاوضات ما يسمى بعملية السلام.

باتت شرائح أمريكية واسعة ومتنامية تعتبر السياسة الإسرائيلية عبئاً على المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية (شهادة رئيس سابق لهيئة الأركان الأمريكية أمام الكونغرس)، وباتت الجامعات والمنتديات الأمريكية تضج بالدعوات لمقاطعة الكيان الصهيوني، على غرار ما جرى  ايام مقاطعة النظام العنصري (الابارتايد) في جنوب أفريقيا، مما وضع بعض أركان الجالية اليهودية في الولايات المتحدة إلى إعلان تبرمهم من سياسة نتنياهو والعنصرية والاستيطانية والعدوانية.

هذا التحول الأمريكي المترافق مع تحول متصاعد في الرأي العام العالمي، أحزاباً وقوى وجمعيات وبرلمانات وحتى حكومات، لصالح الحق الفلسطيني، يحتاج إلى جهد خاص، عربي وإسلامي، من اجل استثماره في مجال استعادة الحقوق الفلسطينية، وقد بات بعضها على الأقل موقف إجماع دولي.

ولعل في العديد من التحركات والمبادرات والملتقيات الدولية المناصرة للقضية الفلسطينية، ومن بينها المنتدى العربي الدولي من اجل العدالة لفلسطين، وما سبقه وتلاه من ملتقيات تضم الآلاف وآخرها المؤتمر الدولي لدعم القدس والانتفاضة في طهران، ما يؤشر إلى بزوغ فجر فلسطيني جديد وسط ظلمة التردي العربي الراهن.

السمة السادسة: وهي تنامي فعالية المقاومة كطريق لتحرير الأرض ومواجهة مخططات الأعداء

من يقارن بين قوة المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية اليوم، سواء في جنوب لبنان أو في قطاع غزة، معطوفة على انطلاق انتفاضة شبابية مستمرة في القدس والضفة الغربية، رغم كل ما تواجهه من حصار ومضايقات، وبين قوة المقاومة في أواخر القرن الفائت يكتشف دون صعوبة إن المخاوف التي يعلنها أركان الكيان الصهيوني من تنامي قوة المقاومة مخاوف في محلها تماماً. وان ما نراه من حملات وتحالفات وعمليات تحريض طائفي ومذهبي تستهدف المقاومة اللبنانية والفلسطينية هي تعبير عن تجاوب مع ضغط أمريكي تحركه بالأساس أيادٍ صهيونية.

لكن بالمقابل علينا أن ندرك إن التحالف الأمريكيالصهيوني مع أطراف عربية وإقليمية يوجه مأزقاً استراتيجياً كبيراً، فهو لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي أمام تنامي قوة المقاومة، لكنه أيضاً يدرك ان قدراته الإستراتيجية لسحق المقاومة في غزة وجنوب لبنان باتت محدودة إلى حد بعيد، وهو ما كشفت عنه حرب جنوب لبنان (عام 2006) وحروب غزة (أعوام 2009 و 2012 و 2014) بالإضافة إلى ما واجهه المحتل الأمريكي من مقاومة بطولية في العراق

في عام 2003 شنت واشنطن حرباً على العراق تنفيذا لرغبة صهيونية تريد ضرب دولة عربية كبرى رافضة سياسة الاستسلام للعدو، بعد أن نجحت في إخراج مصر من الصراع عبر اتفاقيات كمب ديفيد.. وفي عام 2006 شنت تل أبيب حرباً على لبنان تلبية لإرادة أمريكية كانت تريد عبر تصفية المقاومة في لبنان، وتحديداً حزب الله، أن توجه ضربة لما تسميه بمحور المقاومة الممتدة من فلسطين إلى إيران مروراً بالطبع بلبنان وسوريا

ولما فشلت الحرب المباشرة في تموز/ آب 2006، لجأ العدو إلى الحرب بالوكالة، فكان  ما رأيناه في سوريا والعراق من فتن ودمار وخراب وقتل جماعي، هو الحلقة التالية في المشروع ذاته

واليوم نشهد حلقة جديدة بعد اجتماع ترامب ونتنياهو، وتصريحات ليبرمان والجبير، في مؤتمر الأمن الدولي، مما سيدخلنا في دوامة جديدة من العنف تمتد من اليمن في الجنوب وصولاً إلى العراق في الوسط، إلى سوريا  على الساحل، وامتداداً إلى مصر وليبيا وحتى تونس والجزائر في مغرب الوطن الكبير

طبعاً هذه الدوامة ليست أمراً حتمياً إذا أحسن المعنيون التعامل مع الواقع الجديد،  وادركوا إن المستهدف هو كل أبناء الأمة، وكل أقطار الأمة، وكل ثروات الأمة، وان الرد له عنوانان رئيسيان:

العنوان الأول: هو الالتفاف على المقاومة الرادع الأبرز لقوى العدوان والغلو والتطرف والتوحش

والعنوان الثاني: هو تنقية العلاقات العربيةالعربية، والإسلامية _ الإسلامية، لإغلاق كل بؤر التوتر في المنطقة بدءاً من سوريا إلى اليمن إلى ليبيا، إلى البحرين، إلى مصر وأقطار الوطن العربي.

السمة السابعة: تراجع دور الحركة الشعبية العربية الراهنة

لم يعد كافيا ان نوجه انتقاداتنا للنظام  الرسمي العربي دون ان  نلوم الحركة الشعبية العربية بمعظم قواها لتقصيرها في تحمّل اعباء النضال لمواجهة التحديات الكبرى التي يواجهها الوضع العربي، دون ان نحلل اسباب التراجع الذي اصاب الحركة الشعبية العربية وجناحها العروبي التقدمي على وجه الخصوص.

اولى هذه الاسباب الانتكاسة التي مني بها الحراك الشعبي العربي الذي انطلق  في مثل هذه الايام قبل سبع سنوات، وعقد عليه الكثيرون أمالاً عريضة قبل ان تنجح القوى المعادية للامة في حرفه عن مساره الطبيعي الصاعد وتحول إلى مساحة من الخراب والدمار والدماء يرتع فيها العملاء وقوى الغلو والتطرف والتوحش، مما أنعكس سلبياً على الواقع الشعبي العربي وقواه الحية.

ثاني هذه الاسباب  تغليب التناقضات الثانونية والصراعات الذاتية على التناقض الرئيس والصراع الاساسي مع الاعداء، فشهدنا، لا سيما في السنوات الاخيرة، صراعاً بين تيارات الأمة، وبين احزاب داخل كل تيار، وبين اجنحة داخل الحزب الواحد، فتفرقت الحركة الشعبية وتمزقت وغرقت بعض فصائلها في صراعات جانبية مدمرة على قاعدة الاقصاء والالغاء والاجتثاث.

ثالث هذه الاسباب غياب المراجعة النقدية الضرورية لتجارب كل فصائل الحركة الشعبية العربية بكل افكارها وادواتها واساليب عملها، فبدت معظم  هذه الفصائل اسيرة الترهل والتعب والوهن.

رابع هذه الاسباب تراجع استقلالية العديد من هذه الحركات التي بسبب الضغوط المالية وغيرها، ارتهنت لهذه الجهة أو تلك، مما أدى إلى فقدانها بريقها الثوري وقدرتها على المبادرة وهمتها على تزخيم التحركات الشعبية.

خامس هذه الاسباب غياب القضايا الجامعة التي توحد الجهود، وتتكامل معها الطاقات، وانغماس متصاعد في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والبروز السياسي والاعلامي، مما جعل قضية مركزية جامعة كقضية فلسطين تتراجع في برامج ونضالات واهتمامات الكثير من القوى الشعبية.

في هذا المجال، لا بد ان نسجل هنا اننا قبل سنوات وبمبادرة من رئيس مركز دراسات الوحدة العربية الدكتور خير الدين حسيب، التقى عدد كبير من مسؤولي القوى والتنظيمات العروبية اللبنانية من اجل ايجاد اطار عمل مشترك بينها، وقدمت يومها مشروعاً لتشكيل مجلس للعمل العروبي يتضمن ميثاق عمل ونظاماً تأسيسياً، وتفاءلنا خيراًلكن هذا الامل لم يتحقق، واضعنا فرصة نادرة لوحدة التيار العروبي التقدمي كانت ستمكنه من ان يكون رقماً صعباً في أي معادلة سياسية، وأن يسهم بفعالية في إخراج البلاد من مناخات الانقسامات الطائفية والمذهبية المريضة.

في الختام، وفي مواجهة هذه التحديات كلها سواء على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبي، لا بد من التلاقي حول مشروع نهضوي عربي له برامجه المحلية في كل قطر عربي، وهذا المشروع قد شارك في وضعه مفكرون وباحثون من كل تيارات الأمة وأطلقه مركز دراسات الوحدة العربية في مثل هذه الأيام قبل سبع سنوات، والذي ما زال صالحاً، مع بعض التعديلات، ليكون قاعدة لقاء حواري تفاعلي تكاملي بين قوى التيار الوحدوي العربي من اجل النهوض بالأمة من واقعها الحالي.