الأدلجة الدينية وتأثيرها على السياسة والسلم الإجتماعي

الأدلوجة تأخذ صفة العقيدة أو القيم التي تؤلف مراجع لها أو الوظيفة التحريضية أو المذاهب الفكرية المتمأسسة وحسب ما يراد إيصالها بفكرة وتوجهات مرسومة لتأتي في المحصلة إلى توجيه المجتمعات في تكوين الذات الإنسانية فهي الوسيط الذي عبره يصنع البشر تاريخهم، وهي عبارة عن أفكار منظمة وفاعلة إجتماعياً، وقد استغلتها الجماعات الدينية أسوأ استغلال بدلاً عن أن تكون باتجاه التوعية وتطوير المجتمعات ذهبت نحو التضليل وتجهيل المجتمعات والعودة بهم إلى عصور الضلال وغيبيات الوهم والسيطرة على العقول باستغلال العاطفة الدينية في الإقناع والوعي الخاطئ نتيجة محدودية الثقافة والفكر والمعرفة على عكس ما ذهبت إليه الأمم الأخرى حيث اهتم الإنسان بتوظيف الأدلجة في تصويب الوعي المستند على رؤية كونية في مجال إجماليات الثقافة وعلم الظواهر الذي يوظف في نظرية المعرفة.

لقد تجاوزت الحركات الدينية العلاقة بين الفكر الأيدلوجي العام الذي يشمل كلاً من مناهج الفكر العلمي والفكر الفلسفي والديني وعلاقتها المتبادلة واعتمدت على أدلجة المجتمعات بأفكار متطرفة ولدت التناحر وعدم تقبل الرأي الآخر ، وحصرت الثقافة بمصطلحات دينية محدودة تبيع من خلالها الاوهام  من خلال أدلوجة الإسلام السياسي بوظيفته التقليدية التي اعتمدت على التضليل ومحدودية ثقافة العامة مستفيدة من الأساطير.

إن القيم الدينية التي ينقلها المؤدلجون تستثمر كقيم سياسية، لأنها تميل إلى تحريك لعبة التماهي والإثم، وبذلك ليس لصفة الهوى التي تتحدث عنها الدعوات الدينية مظهر ثانوي يمكن نفيه من دون تناقض، فإذا كان هناك تدرج في عملية الهوى هذه، فإن الثنائية العاطفية التي تخترق كل أدلوجة غير قابلة للاختزال، لذلك يجب علينا أن نحضر أنفسنا لإعادة فهم وضعنا التاريخي لكي نتجاوز مشكلة الأدلجة الدينية التي سببت شرخاً اجتماعياً كبيراً، والمطلوب  من كل فرد أن يكون له استقلال خاص بعيداً عن الأدلجة ليكون في المحصلة عنصرا مهما يسهم في العملية السياسية التي تؤدي إلى قيام دولة المؤسسات، لأن مفهوم الدولة ينحدر من الجماعة الشعبية إلى الحكومة، ومن الحكومة إلى شخص الحاكم، هذه هي قاعدة الحكم الديمقراطي.

أما القاعدة المؤدلجة دينياً فإنها عكسية طاردة تنحدر من شخص الحاكم إلى الحكومة ثم إلى الشعب.

نحن نفتقر الى المقومات السياسية التي تخضع لعلم النفس وعلم التربية اللذين يحصنان الفرد من سيطرة الكهنوت الدينية، فالسياسة هي فن الدولة ولن تتطور مالم تكن مبنية على توعية قوية بين أفراد المجتمع حتى يحافظ على تماسكه ويتحصن بمعرفة نفسية وتربية قيمية ، و حتى ينتج دولة تعمل على إعطاء أعضائها المساعدة لتعكس ذلك طردياً على عامة الشعب قبل أن تفكر في الحصول على الطاعة المطلقة كما تهدف إليه الجماعات الدينية، لأن الأمر يتعلق بالشعب الذي يجب على الدولة أن توفر له كل عوامل السعادة، مما ينبني أساساً على المعرفة السياسية و يحافظ على الدولة كجسم سياسي، ناتج عن تطور جيلي يضم توازنات في الحقوق والواجبات متجاوزاً التفاوتات الدينية والاجتماعية التي تؤدي إلى التصادم، لانه يؤدي لتقسيم العمل الذي ينطلق من تعاون عضوي.، “فالسياسة هي فن إشراك الشعب، لتأليف ورعاية وصيانة الحياة الاجتماعية”  كما عرفها ألثوزيوس  واعتبر الدولة كاتحاد فئات متصلة بعقد تنطلق منه السيادة” غير القابلة للتجزئة والمنطلقة من العقد الإجتماعي الذي بموجبه قامت الدولة وهو العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم والذي جاء نتيجة تطور المجتمعات المتحررة  من قوانيين الطبيعة التي كانت تستبعد المفهوم الاجتماعي معتمدة على مفهوم شريعة الغاب في سيطرة الأقوى على الأضعف.

إن عملية البناء الإسقاطي الأكثر شيوعاً لا يمكنها أن تقوم بعملية التحرر الجذري من الأدلجة الدينية التي تلقاها الفرد منذ الصغر وعمقتها المناهج الدراسية والمنافسة بين المذاهب التي سببت حالة اللاتوازن الفكري والسلوكي لدى أغلبية الأفراد والأسر والمجتمع وانعكس ذلك على الدولة وممارستها مما ولد حالة من الاحتقانات والتراكمات التي أدت إلى الإنفجار والمواجهات المسلحة وانهيار الدولة والتفكك الإجتماعي والتدخلات الخارجية التي اعتمدت عليها المكونات الدينية حسب توجهاتها العقائدية إضافة إلى التوجهات السياسية للأحزاب التي وجدت نفسها ضمن ملحقات الجماعات الدينية وفاقدة لمشاريعها السياسية التي تأثرت بضعف قواعدها الشعبية في ظل سيطرة الجماعات الدينية الأمر الذي أثر سلبا على المشاريع السياسية ذات التوجهات الاستراتيجية لبناء الدولة المدنية.

نحن نفتقر إلى النمو الفكري الذي بدوره يؤدي إلى نمو الوعي المجتمعي الذي يهيئ للتقدم في النظام الاجتماعي والتعايش بين المذاهب والتيارات السياسية المختلفة وإنهاء الانقلابات السياسية الدائمة التي تتعرض لها البلاد بين فترة وأخرى ولم تشهد أي استقرار سياسي منذ قيام الثورة.

إن التأثير الأيديولوجي للتيارات الدينية ما يزال طاغياً، عقلانياً وفكرياً على المجتمع، ويمكن بتعابير أخرى أن يظهر وجدانياً وبطريقة عاطفية، وتأقلم الفكرة في ” الخرافة ” وقيمتها تكمن ليس في الحقيقة التي ليست الخرافة منها، ولكن في الحقيقة التي تخلق.

إن آلية الصراع والتنافس السياسي على السلطة توضح المسافة التي تفصل بين ادعاءات الخطاب الديني والسياسي وأفعال الفئات التي تنتجه وبين الأهداف الفعلية التي تسعى لها، فضلاً عن حقيقة التمثيل الذي تدعيه برفع المظالم وتحقيق العدالة المسنودة بقيم سماوية ونصوص دينية.

فالمسألة هنا تتجاوز الخطاب الديني والسياسي معاً فهي مجرد انعكاس لفكرة دينية ضيقة بسيرورة اجتماعية تؤصل لفكر الجماعة وتوجهاتها الداخلية بين المنتمين إليها والخارجين عنها من الجماعات والمؤسسات الاخرى،

الأمر الذي يؤدي إلى عدم الاستقرار والتوصل إلى حلول توافقية مالم تحدث تغيرات جذرية تحررية مستندة إلى رؤية استراتيجية تفصل الدين عن الدولة كما رأيناه في دول مجاورة استطاعت تجاوز هذه المعضلة ، وانتجت دبلوماسية منفتحة انعكست على المنطقة والمجتمع الدولي وحققت لشعبها الأمن والإستقرار والرفاهية.

*دبلوماسي وسياسي يمني