من مذكراتي عن الوحدة

تعلمتُ أن "الوطن العربي" واحد من أقصاه إلى أدناه.. ربما كان هذا أجمل ما تعلمته، وبات له اليوم وحشة الغياب الذي طال، والفقدان الذي يشبه الموت، في عهد سادهُ المتوحشون وأنتشى فيه التافهون، ومات أحراره كمدا وقهرا.

تعلمتُ أن يكون المرء إنسانا ضد كل ما ينال من إنسانية، في أي مكان من هذا العالم، أو ينتقص من حقوقه بظلم أو بطغيان، والانتصار له في عصر دميم، موسوم بالتفاهة وتوحش رأس المال.

رغم كل هذا التوحش الذي يسود، يجب أن لا نيأس؛ لأن في اليأس موت.. يجب أن لا نستسلم لهذا الموت الباذخ والتوحش المنتشر، بل والأكثر وجوبا مقاومته على نحو لا يعرف الاستسلام، وبأمل لا يعرف التلاشي.. الحياة ولاّدة، ولعل في هذا وذاك مخاض ولادة جديدة، وبداية عهد جديد، والمثل المشهور يقول: "دوام الحال من المحال"، ولنا في التاريخ ألف عضة وعبرة ومثال.

***
حالما كنت صغيرا تعلقتُ بما كانت تُعرفُ بخارطة "الوطن العربي".. شاهدتها في إدارة المدرسة، وشاهدتها في بعض المناهج الدراسية المقررة، وتكررت أمام عيوني في أكثر من مشهد ومكان.. استهوتني جغرافية وتاريخ وامتدادات هذا الوطن، والانتماء إليه، دون تعصب أو انتقاص من الآخر.

ورغم الحدود التجزيئية والأنظمة العربية القمعية المستبدة الجاثمة على أنفاس هذا الوطن الذي ننشده، ورغم الواقع العربي الثقيل بكل تعقيداته، كانت أحلامنا في ذلك الزمن كبيرة وعابرة للحدود.

كان لدينا أحساس كثيف بالانتماء العميق لهذا الوطن الذي نبحث عنه، ونشتاقُ إليه.. كان هذا الوطن في وجداننا شديد الحضور.. أحلامنا ومشاريعنا كبيرة.. كنّا نحلم بالوحدة العربية الكبرى، ونفكر بمستقبل طموح.

عندما تراجعت الأحلام الكبيرة صغرت وانحسرت المشاريع، حتى بات أكبرها أصغر من عين الذبابة.. الوحدة اليمنية التي كان يفترض أن تكون بداية انطلاق أو جسر عبور إلى حلم الوطن العربي الكبير، صارت تعاني من التشرذم والتلاشي حتى صرنا نُقتل ونُعتقل في الحدود الصغيرة بين المناطق، ونقاط العبور، ومسميات أمراء الحرب، ووكلاء الخارج المدعومين بأموال النفط، ورضى وتواطؤ مراكز راس المال الجهنمية..

***
كانت الوحدة اليمنية في يوم ما، أملنا وحلمنا وقد تبدد ما هو أكبر منها.. كنّا كلما بدأنا نرى هذه الوحدة تدنوا وتقترب منّا، نتفاجأ بأحداث وظروف تغيّبها عنّا مرة أخرى نحو المجهول، أو ترجيها إلى موعد غير معلوم، أو تجعل من أمر تحقيقها ما يشبه المستحيل.

في آخر أيام الرئيس إبراهيم الحمدي كانت الوحدة اليمنية قد بدت وشيكة التحقيق، وربما دنت على مسافة مدت يد أو مرمى حجر، أو هذا ما خلناه، ثم أصبحنا على خبر فاجعة اغتياله.. تبدد الحلم الذي كان ينمو ويكبر أمام عيوننا ببيان نعي.

أذكر يومها وأنا استمع المذياع في مفرج بيتنا القديم بالقرية أجهشت بالبكاء بحرقة ومرارة وألم.. شعرت بقهر وانسحاق لا مثيل له، رغم أن عمري يومها كان دون البلوغ.. كنّا في تلك الأيام كبارا، وإن كانت أعمارنا لا تزال صغيرة.

كان حُلم الوحدة اليمنية بعض من تكويننا.. تعلقنا به من نعومة أظفارنا.. تنشّئنا عليه.. عانينا من أجله.. صار جزء من وجداننا العميق.. الوحدة ظلت لعهد طويل حُلمنا وهدفنا وخيارا لا نحيد عنه.

***
ظلت الوحدة هاجسنا وشعارنا الذي لا نتخلى عنه.. كان شعار “لندافع عن الثورة اليمنية وتنفيذ الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية.” شعارا لطالما رفعناه وردّدنا وتعلقنا به.. كان حاضرا في ترويسة جل المراسلات الرسمية والحزبية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

ظلّت الوحدة اليمنية في دولة الجنوب هتافا وشعارا وقسما وتحية للعلم.. عرضا مكتوبا على الجداران وواجهات ميادين الاستعراضات والتدريبات العسكرية.. في الساحات والشوارع العامة.. حاضرة في كل ما هو رئيسي، وفي كثير من التفاصيل.

صار شعار الوحدة متصدرا للكثير، أشبه بتصدر البسملة لسور "القرآن الكريم".. الرسالة التي لا تحمل في رأسها الشعار تبدو مبتورة، شأنها شأن البسملة.. أما في القلوب كانت الوحدة حاضرة لدى أبناء الجنوب وأبناء الشمال على السواء.. لا فرق بينهما.. كانت الوحدة حلما شعبيا عريضا ومحل شغف يتعلق به الجميع.

بعد كل إخفاق وفشل وضياع فرصة تحقيق الوحدة اليمنية، كنت أشعر أنها لازالت حلماً بعيد المنال، وأن تحول هذا الحلم إلى واقع يحتاج إلى فترة غير قصيرة، بل ويلزمها أيضا تغيير أحد النظامين.. وعندما تحققت الوحدة في 22 مايو 1990 فرحت بتحقيقها فرحا كبيرا، غير أني وبالقدر ذاته كنت متوجسا وقلقا وخائفا من المجهول.

لازلت أذكر قبل الوحدة بفترة وجيزة تم اختياري لألقي محاضرة على ضباط وصف وجنود معسكر 20 بكرتير عن سلبيات وإيجابيات "دستور دولة الوحدة"، كشفت فيها عن المخاوف والمحاذير.. انتقدت أهم مواد هذا الدستور، والتي لا تهدد فقط المنجزات التي تحققت على الصعيد الاجتماعي والتشريعي في الجنوب، بل وأيضا ما يتهدد مستقبل الوحدة برمته.

بلغ التوجس مبلغة ليس فقط لأن علي سالم البيض صار الرجل الثاني لا الأول، والعملة صارت الريال لا الدينار، والعاصمة صنعاء لا عدن، بل أيضا لأن هناك ما هو أهم؛ وهو الأساس التشريعي التي قامت عليه دولة الوحدة، ووجود بعض الثغرات الكبيرة في الدستور، مثل تلك التي أتاحت للرئيس إصدار قوانين أثناء إجازة البرلمان.. لقد كان هذا بمفردة مدعاة لقلق أشد.. وبالفعل ظلت النوايا السياسية والتشريعية تتكشف تباعا، حتى انتهت بإقصاء شريك الوحدة على كل المستويات، وبحرب كارثية على مستقبل الوحدة والوطن.

تمت جل التنازلات من طرف واحد هو الجنوب الذي كان أضعاف مساحات الشمال، ومن دون ضمانات تُذكر لتلك الوحدة واستمرارها.. لقد تم تحقيق الوحدة دفعة واحدة، وبقفزة واحدة غير آمنة من المخاطر، ودون العمل بالمحاذير.. أحسست مع كل فترة كانت تمر ما يؤكد أن الوحدة مُهددة، وأن مستقبلها قد بات بكف عفريت.

كان يجري التراجع على مختلف الصُعد، وفي مقدمتها ما يمكن تسميته بالتراجع لصالح الماضي وقواه التقليدية، وما رافق ذلك من انقلاب تشريعي مستمر ظل يقوّض ما كان يجب أن يستمر، لقد كان يجري التخلي عن الإيجابيات في نظام الشطرين، ويتم استصدار القوانين بقرارات جمهورية لصالح القوى التقليدية الأكثر تخلفا ورجعية.

لازلتُ أذكر كيف جرى تخلي نظام ما بعد الوحدة عن إيجابيات النظامين في الشمال والجنوب، والتي كان يفترض أن يؤسس عليها نظام دولة الوحدة، وكيف جرى استصدار القوانين الصدئة والمتخلفة بما تسمى قوانين بقرارات جمهورية حال ما كان برلمان دولة الوحدة في إجازة رسمية!! وكيف جرى تعديل الدستور لاحقا بعد الحرب لصالح ائتلاف قوى الحرب المؤتلفة، وكيف تم تقويض هامش الحريات الذي تحقق بعد الوحدة، وتقويض القطاع العام وبيعه وخصصته بصفقات بيع لا تخلوا من مؤامرة وفساد لصالح أرباب الفساد والقطاع الخاص، كما تم تسريح وتعسف موظفي القطاع العام والمختلط.

أتذكر كيف كان تم خلخلة واستقطاب بعض قادة وكوادر الجنوب واليسار عموما، وممارسة الترهيب والترغيب حيالهم بعد الوحدة، وإذكاء وتسعير الانقسامات بين صفوفهم وصفوف من جاء قبلهم من الجنوب.

لازلت أتذكر أيضا كيف سقط بعض القادة الجنوبين أمام المغريات، والتخلي عن رفاقهم والوطن، وكيف هرع بعضهم للتخلي عن المبادئ، وذهبوا يبحثون ببرجماتية عن الأموال والعقارات والامتيازات، فيما وجدنا أنفسنا نحن ذوي الرتب الصغيرة نعاني ونكابد ما نتج عنها من نتائج.

بدأت المماطلات وتأخير نيل حقوقنا واستحقاقاتنا - نحن الذي جئنا من عدن إلى صنعاء - وانتهى الأمر بتقليصها أو تعطيلها أو مصادرتها.. بدينا أمام أنفسنا كمتسولين عند السلطات من أجل هذه الحقوق والمستحقات.. كما أن كثير من وعود تسوية أوضاع أعضاء الحزب والجبهة الوطنية في الشمال لم تتم، وجرى التخلي عنها على نحو غير متوقع، وبتذاكي ومخاتلة تنم عن عدم التعاطي مع القضايا بمسؤولية.

ليس بعض القادة الشمالين فقط من كان ينهبون حقوقنا، بل أذكر أن بعض القادة الجنوبيين أيضا كانوا يقلِّصونها ليعيدوها وفرا ويحصلون على نسبة منها من رب نعمتهم.

أتذكر أن بعض القادة الجنوبيين الذين كنّا نقصدهم من أجل حقنا في إيجار السكن وغيره لم نعد نتمكن من الوصول إليهم أو اللقاء بهم.. أتذكر أن أحدهم جلسنا منتظرين له ساعات في غرفة حراسته لنقابله ولم نتمكن، فيما كان هو في مقيل مع بعض قادة الشمال يجاملون بعض ويمزحون ويتبادلون ود المقيل، بينما كنا نحن في بوابته نغتلي وننسحق من القهر.. لازلت أذكر وأنا أقول لمن حولي في غرفة الحراسة: “سيأتي يوما يخرجونهم من هذه البيوت كبّا على الأنوف.. هؤلاء الذين يتنكرون لنا، ويتعالون علينا، ولم نعد نستطيع أن نصل لهم بشكوى أو مظلمة.."

ثم تم الاستقواء بالأغلبية في نتائج الانتخابات البرلمانية، وممارسة الإقصاء لبعض الكوادر الجنوبية، واليسارية بشكل عام من الشمال والجنوب، والتعسف ضدها، والتضييق عليها في حقوقها، بل ووصل الأمر إلى ممارسة الإرهاب، وتصفية حوالي مائة وخمسين كادرا من يسار الجنوب والشمال أو المحسوبين عليه من قبل جماعات مرتبطة بائتلاف القوى التقليدية لتنتهي الأمور إلى الحرب والإقصاء، واستباحة الجنوب بطوله وعرضه كغنيمة حرب، ثم صارت اليمن كلها مستباحة من قبل المنتصرين، وتم استبدال شريك الوحدة بخصومهم الجنوبين الذين قدموا إلى الشمال في مراحل سابقة، وهي مشاركة في حقيقتها محدودة، وتغلب عليها التبعية والانتقاص.

لقد عانينا واليسار في الشمال والجنوب من تبعات حرب 1994 وتداعياتها في السنوات اللاحقة، وتم تسريح الكثير من قادة وكوادر وضباط جيش الجنوب والمنتمين لليسار عموما، وكدت أكون واحدا منهم، حيث تم احالتي الى الشعبة البرية على طريق التقاعد المبكر أو التسريح، لولا مدير القضاء العسكري الدكتور عبدالله العلفي الذي أستعاد مرتبي ووضعي من الشعبة البرية بعد شهرين، وذلك على ضمانته ومسؤوليته.

***
بين الأمس واليوم مفارقات مهولة تصل بنا أحيانا حد الفجيعة.. اليوم لم نعد نتحدث عن ذاك الوطن الذي كنّا ننشده أو نبحث عنه، وقد أنقلب الحال رأسا على عقب.. ما حدث فيه تحوّل مريع بكل المقاييس، بل ويتعدّى أحيانا كل معقول ومقياس.

بعض الساسة والمدّعون بلغوا بالتفاهة مبلغا لم يتم بلوغها من قبل.. بلغ الأمر ببعضهم في الابتذال أن يكونوا مجرد قفازات و واقيات ذكرية لغيرهم.. الكبير فيهم أصغر من حشرة.. وبعضهم مجرد مدعون وهم في الحقيقة أقزام صغار ليس لهم وزن أو بطولة، ويستصعب رؤيتهم حتى بأحدث وأكبر العدسات والمُكبرات.

***
اليوم لم تعد لنا وحدة أو وطن.. تمزق كل شيء شر ممزق.. أكبر جزء في الوطن بات على الخارطة لا يُرى بالعين المجردة.. بدلا من الحديث عن الوحدة اليمنية بتنا نتحدث عن "البعرارة" و"شارع جمال" و"القصر" و"الدرهيمي" و"شقرة" و"الشيخ سالم" وغيرها من المسميات الصغيرة المتكاثرة.. بات المشهد أكبر من كارثة، وأكثر من مأساة، وندم لا حدود له.

خونة صاروا أكبر من الخيانة.. تجار حروب باتوا أبشع من الحروب ذاتها.. أمراء حرب وعملاء باعوا الوطن بالجملة والتجزئة.. أما المواطن فصار الضحية الأولى لكل هذا الذي حدث، ولم يعد له موطن أو بقايا وطن.. الوطن افترسته ونهشته الضباع من كل جانب.. صار الوطن فريسة بين أنياب ومخالب، أو بين محتل وسمسار.

صرنا اليوم نشكو التمزق والتآكل في مجتمع تشظى وتضائل حتى صار أكبر كتلة فيه أصغر من جرة الفول.. وفي المقابل تغوّلت وتضخمت الكراهية المتأججة بالحرب والمال، وعلى نحو غير مسبوق.

تفجرت مستنقعات العصبيات القروية والمناطقية والعنصرية والطائفية وغيرها مما هو مسموم ومنتن.. تم تلويث كل شيء نقي، بما فيه ما بقي لنا من هواء نتنفسه.. ما تم شحنه وضخه من الكراهية كان مهولا ومريعا وكافيا لابتلاع مجرة.

صارت حدودنا هي حدود المناطق الصغيرة والقبائل والعشائر الأصغر منها.. أمراء الحرب أهانوا كل شيء كبير، وأولهم الوطن، تنفيذا لمخططات وأجندات غيرنا.

أطراف الحرب الداخلية وبتواطؤ دولي وضيع تأمروا على شعبنا وأنهكوه ودمروه.. تعاونوا على نحو ممنهج لإفقاره حد الموت.. تم قطع رواتب موظفيه، وتدمير اقتصاده، وتحويل شعبنا إلى أشتات ومحاطب حرب وأجرأ وأكثر من ذلك بأبخس ثمن. 

وللحديث بقية وشجون وجراح لا يوجد من يداويها.