العمل المؤسسي يسقط العنف الرمزي

تتجلى فعالية الخطاب العدواني بدون لبس في سلوكيات وإعلام القوى المتصارعة في اليمن ، فالتعبير التمايزي الذي تنتهجه بعض هذه القوى يشكل عدواناً معمماً على جملة ما تبقى من العمل المؤسسي والمكون الشعبي، لأن تطابق صنع الاعتقاد الديني والمذهبي الذي تنتهجه هذه المكونات وتفرضه على من هم تحت سيطرتها وتلقنه للأجيال الناشئة مما يسهم في السيطرة الأحادية على كل مؤسسات الدولة والهيئات الإجتماعية.

ولأن المنظومة الأيدولوجية تبني ذاتية أصولية متشددة حاضرة في كل التكتلات والعلاقات داخل المجتمع، لأنها تلقنت من خلال تعبيرات وخطابات هرطقية أحدثت خللا في جملة الدلالات والانتماءات والممارسات، فالصيغ التي وظفتها الجماعات التي سيطرت على مقدرات الدولة لتبرير قمعها وممارساتها ضد من يخالف معتقداتها وتوجهاتها استندت على وقائع استجلاب مخلفات الماضي ، واستغلال العاطفة الدينية ومشاركة قوى اقليمية ودولية في الحرب حيث استمدت قوتها من هذه المتناقضات.

 فالتعبيرات التي اعتمدت عليها الجماعة والتي نسميها مخيلات لخروجها أصلاً عن تعبيرات الأدلجة السياسية المنظمة، تقوم بعمل اجتماعي مضلل ينتج فيه الخطباء المؤدلجون تعبئة شعبية وحشدا شعبيا لمواجهة كل من يخرج على نهج الجماعة أو مواجهتها، وذلك من خلال توظيف الكلمة ، وانطلاقاً من محدودية ثقافة المجتمع واستغلال عاطفته الدينية والخلافات الماضية التي مر عليها قرون من الزمن، وداعي الانتقام للمظلومين وغيرها من المفردات.

وانطلاقاً من معاناة الشعب وعدم إشباع طموحاته. فالتعبيرات تستدعي، في مستوى الاعتقاد والحب، تتغير المواقف والتوجهات حتى أن لواقع التعبير النقدي ونشره تأثيراً مباشراً على هذه المواقف، في الانتماء إلى فكر الجماعة وتوجهاتها لدى العامة البسيطة، وعبر الإغراءات والمؤثرات الإيجابية وتثبيت غيري للمسيطرين على السلطة ورموزهم والترغيب والترهيب للرموز والمكونات الإجتماعية.

ويتجدد هذا الإرتباط الذي قد يولد الثقة والدعم من خلال مجموعة تعبيرات طقسية واحتفالات دينية وأشكال مظهرية، وتقمص الشخصيات التاريخية الإسلامية المؤثرة، كما أن جزءاً من الحب والولاء يدخل في الخضوع للسلطة، وأن العدوان الرمزي قد تمارسه الذوات نفسها إذا كان تعلقها بالسلطة من دون تحفظ، وهذا ما يحطم التسامح إزاء الخطاب المضاد للارتباطات التي رسختها الجماعة.

والواقع أن الخطاب النقدي ينبني على الرفض والإدانة والنفي، ويرسم حداً عينياً بين الحائزين على السلطة غير الشرعية والأبرياء ضحايا هذه السلطة التي جيرت مؤسسات الدولة لصالح مكونها، وأساساً يقوم مشروع الاستنكار على مجموعة المعارضة بخطاب يتضمن عناصر لتسهيل بناء العلاقات الإجتماعية من جديد والتي هدمته تلك الجماعات ومعها تلاشى العمل المؤسسي واختفت الحياة السياسية، ليصبح الصراع بين القوى الإجتماعية الضارة المنضوية ضمن كتلة سيطرة فكرية ومؤسساتية على كل مقومات الحياة السياسية الطبيعية، وبين قوى أخرى تم تجريد شرعيتها وهي تفتقد لعوامل القوة المجتمعية وأهلية استعادة مؤسسات الدولة والحياة السياسية، ومعارضة مستقلة ضعيفة مقموعة تفتقر لمقومات المواجهة ليس لديها سوى الخطاب البسيط القابل للنقل ضمن مواقع التواصل الإجتماعي وبعض المواقع المتحررة من سيطرة القوى المتصارعة على السلطة.

هذا الخطاب البسيط القابل للنقل وإعادة الإنتاج بمواضيعه الرئيسية العامة، لا يقدم نفسه خطاباً مشتركاً، ولكنه يظل فردياً ضمن تأثيرات محدودة مع أنه يجب أن يكون مشتركاً لكل المجموعات التي تنادي باستعادة مؤسسات الدولة والحياة السياسية لوضعها الطبيعي ومعها تعود الحقوق والوجبات لكل مواطني الدولة وتستعاد الأموال المنهوبة وتسلم المرتبات المقطوعة منذ أن غابت الدولة وتمت السيطرة على كل مقدراتها وتوظيفها في الصرعات ولصالح المتنفذين والقوى المتناحرة ومكوناتها.

كما يجب أن يتضمن الخطاب عناصر لتسهيل إعادة بناء علاقات اجتماعية جديدة بعيدة عن عوامل الفرقة والمذهبية والطائفية تؤمن بالحياة وحق الإنسان في أن يعيش حياة كريمة تكفلها الدولة في الدنيا ، أما في الآخرة فالأمر يعود للفرد نفسه وعلاقته بربه وسلوكه القويم مع من حوله، ضمن منطق الرب " بل الإنسان على نفسه بصيرة"، فمن خلال هذه الأبعاد والمنطق يساهم الفرد في الإنتاج المعرفي والوعي الاجتماعي لخلق وحدات إجتماعية، وتجميع الطاقات المعارضة للقوى التي أشعلت الحروب وفككت المجتمع ونهبت الدولة ومقدراتها.

وضمن هذا السياق سوف يتأكد التأثير المباشر للأدلوجة الناقدة بوضوح وولادة الأحزاب الثورية الحقيقة، وعملية توحيد الطبقات السياسية والشعب الواعي الطارد لكل المروجين للفتن وتجار الحروب ودعاة الطائفية والمذهبية والمناطقية والقبلية.

هنا تظهر الأدلوجة النقدية كإحدى قوى التغيير الإجتماعي الكبرى، ضمن قدرتها في الأدلوجة السياسية التي تفرض حضورها الكلي ضمن النشاط الإجتماعي البعيد عن لغة السطحية  او كظاهرة وحيدة، ولكن كلغة شاملة، كقانون أعلى قابل للتدخل في كل المستويات وكل الأفعال  بحسب النماذج المتمايزة، مما يمكنها أن تشكل المكان العيني للإندماج المجتمعي الشامل.

 مؤمنة الكلية العيانية المنيعة عبر الكلية الرمزية، وبالتالي فانها ستشكل الأداة الممتازة للسلطة السياسية بوصفها سلطة تواجه الكلية، واحتمالياً الاداة الممتازة لاختزال الاختلافات التي خلفتها الحروب والجماعات المتصارعة المعتمدة على المنظومة والأدلوجة الأصولية المتشددة التي خلفتها.

*دبلوماسي وسياسي يمني