سلطة الحوثي والاكتفاء الذاتي.. صناعة تحويلية، مدخلاتها قمح ومخرجاتها طابونة
ما الذي يجعل سلطة تعرف إمكانياتها جيدا تخرج إلى العلن، ودون أن يطلب منها أحد ذلك، لتعلن أنها وصلت بزراعتها للقمح إلى الاكتفاء الذاتي؟!
ثم حين لا تستطيع أن تبدو صادقة حتى في الظرف الذي خلقته لنفسها، تلجأ إلى ترقيع زعمها بالقول إنها لم تكن تقصد من الاكتفاء ما تشير إليه اللغة، وإنما ما تشير إليه هي من استعراض للعنتريات واجتراح المعجزات.
مع أن أحدا لم يطلب منها ذلك، ولا أن تفعل شيئا سوى القيام بمسؤولياتها في صرف مرتبات الناس، وبيض الله وجهها لو فعلت.
الحديث هنا بطبيعة الحال عن سلطة صنعاء، فمنذ أشهر وهي تروج إعلاميا أنها تمكنت من الوصول إلى اكتفاء ذاتي تام من مادة الدقيق، وأنه من الآن فصاعدا لن يكون الدقيق إلا منتجا يمنيا خالصا.
ربما كانت تريد من الشعب، بعد سماع هذا الخبر، أن يتوجه مباشرة إلى هيكل الصلوات، رافعا يديه بالشكر والثناء لهذه السلطة التي منّ الله بها عليه وخصها دون بقية الشعوب.
لكن كيس الدقيق المحلي، وإعلاناتها التي ملأت المواقع وشاشات التلفاز وتغريدات المغردين، فضلا عن تصريحات وزرائها المتتالية، ليس له أن يغدو طحينا، وليس له أن يكون سوى تلك الصورة التي رافقت الإعلانات واتخذها بعض “المؤمنين” بروفايلات لصفحاتهم على مواقع التواصل، إيمانا منهم بأن الجعجعة هذه المرة قد تنذر بطحين، خلافا للمثل العربي القديم الذي لا شك أنهم يعرفونه جيدا.
وفي كل الأحوال، بقي الواقع شاهدا على أن جماعة وسلطة وحكومة لم تفِ بوعدها بصرف نصف راتب شهري لجميع الموظفين، وفشلت فشلا ذريعا منذ أول تجربة لها في ذلك المضمار بتقسيم الموظفين إلى فئات، من حق الناس ألا يستمعوا باهتمام إلى بطولاتها في اجتراح المعجزات.
لكن تلك السلطة، كما وجدت نفسها في حيرة من أمرها بخصوص نصف الراتب الشهري، حيث لا يزال الكادر التربوي والجيش والأمن بلا نصف راتب حتى الآن، فإنها وجدت نفسها أيضا في حيرة من أمرها بشأن الاكتفاء الذاتي من الدقيق.
إذ كيف لها أن تبدو صادقة وهي تتحدث عن وقف استيراد مادة الدقيق من الخارج، بينما تستورد حتى الأكياس المحاكة التي ستعبئ فيها دقيقها المحلي؟!
فإذا كانت قد عملت طيلة السنوات السابقة على محاربة مصانع الأكياس المحلية، وأفضت إلى إغلاق بعضها وركود البعض الآخر لصالح الأكياس المستوردة، فكيف لها أن تتحدث عن اكتفاء ذاتي من الدقيق؟
في 8 أكتوبر من العام الماضي، أعلنت سلطة الحوثي “الاكتفاء الذاتي من الدقيق” وأصدرت توجيهات للتجار والشركات بعدم استيراد الدقيق من الخارج.
وفي 8 يناير من هذا العام، أعلنت الحكومة مجددا “الاكتفاء الذاتي من الدقيق” وأصدرت التوجيهات نفسها.
وفي 10 أبريل 2023، أوردت وكالة “سبأ” التابعة لسلطة الحوثي بيانا لوزارة الزراعة تستنكر فيه “ما قامت به الشركة العربية لصوامع الغلال من إنزال دقيق أسترالي مستورد إلى الأسواق المحلية باسم خيرات اليمن”،
معتبرة أن “إنزال منتج أسترالي المنشأ باسم منتج محلي يعد مصادرة للأسماء الوطنية، وعملية تضليل وغشا للمستهلك اليمني، ومخالفة للقوانين واللوائح المنظمة للأسماء التجارية”،
مطالبة “وزارة الصناعة والتجارة بإلغاء هذا الاسم التجاري أو تخصيصه للحبوب المحلية فقط، وإلزام الشركة بسحب الكميات المسجلة باسم خيرات اليمن من السوق”.
وفي 2 فبراير، نشر الناشط في جماعة أنصار الله، علي عبد العظيم الحوثي، بيانا لوزارة الزراعة تستنكر فيه الأمر ذاته، معتبرة أنه “تضليل وغش للمستهلك اليمني، ومخالفة للقوانين واللوائح”.
البيانات نفسها هنا وهناك، والفارق هو التوقيت فقط.
وماذا بعد؟ لا شيء سوى أن سلطة الحوثي، حين يُكتشف أن الدقيق الذي أعلنت الاكتفاء منه ليس سوى دقيق أسترالي، تريد أن تلقي باللائمة على إحدى شركات صوامع الغلال، بغية التخلص منها وضرب سمعتها أولا، ربما بسبب خلافات حول زيادة الجبايات، وثانيا حتى لا يقال إن موضوع الاكتفاء الذاتي كذب من أساسه.
لكن ثمة تفسيرا آخر لدى الناشطين، وهو أن سلطة الحوثي، بإعلانها الاكتفاء الذاتي، تقصد أنها تستورد القمح (الحبوب) ثم تطحنه بخبرتها الخاصة، فيتحول بذلك القمح المستورد إلى دقيق محلي بامتياز، ولكن ليس عبر الشركة العربية لصوامع الغلال، التي تتهمها وزارة الزراعة بالغش، وإنما عبر طواحينها الخاصة، التي قد تجعل من التراب طحينا إن لزم الأمر، في سبيل “خدمة شعبها” وإسكات جوعه.
وهكذا، تكون سلطة الحوثي قد حققت لشعبها العزيز “اكتفاء ذاتيا من مادة الدقيق عبر صناعة تحويلية، مدخلاتها قمح ومخرجاتها طابونة”، حسب تعبير الناشط أبو أحمد العرامي.