الحوارات الجنوبية المتعددة.. هل تفضي إلى حل القضية الجنوبية؟

 يتوالى المزيد من فتح النوافذ للحوار السياسي الجنوبي بين القوى والكيانات السياسية الجنوبية على هامش إيجاد الحل العادل للقضية الجنوبية، وكأن حواراً وأحداً لا يكفي.

فمن لقاء عدن التشاوري الذي دعا له الانتقالي إلى لقاء سيئون التشاوري الذي دعت له مكونات وكيانات سياسية وقبلية حضرمية، إلى لقاءات حوارية تجري منذ ثلاثة أيام في العاصمة السعودية الرياض بشأن القضية الحضرمية.

وفي ثنايا هذا الزخم في المشهد السياسي الجنوبي، تأتي أنباء عن لقاء تحضيري في العاصمة المصرية القاهرة لقوى سياسية جنوبية حراكية وسياسية، تستعد لإشهار مجلس تنسيقي يضمها في إطار واحد، يمهد بالتأكيد لحوار موازٍ آخر للحوارات التي جرت مؤخرا.

بات الانقسام والتباين في المواقف بين الطيف السياسي الجنوبي ظاهرة تميز العقل السياسي الجنوبي، فمنذ الحراك السلمي في عام 2007 وصلت المكونات السياسية إلى أكثر من 50 مكون وكيان وتجمع وحزب، وما تزال الأيام المقبلة كما يبدو حبلى بالمزيد من هذه الكيانات والمكونات تحت يافطات مختلفة.

> الميسري يتصدر كياناً سياسياً جديداً.

بحسب مصادر ، فإن الجهود التي يقودها وزير الداخلية الأسبق ورئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر الشعبي العام الجنوبي  أحمد الميسري، تستعد لإشهار تكتل سياسي ضمن إطار تنسيقي وأحد.

يضم التكتل السياسي الجديد عدداً من مكونات الحراك الجنوبي وقوى سياسية جنوبية، لم يشملها لقاء عدن التشاوري، بالإضافة إلى شخصيات سياسية ووزراء ومسؤولين سابقين وشخصيات قبلية واجتماعية جنوبية، كان لها موقف سياسي مشكك ورافض لحوار عدن الذي دعا له المجلس الانتقالي في 4 مايو من الشهر الجاري.

وقالت مصادر إن مشاورات أجريت في الأردن وسلطنة عمان وعدن والقاهرة وعواصم أخرى لهذا الشأن، أفضت إلى اتفاق على إشهار الكيان السياسي الجنوبي الجديد.

ومن المتوقع أن يفتح هذا المكون الجديد حوارا جنوبيا بين تلك المكونات، سيفضي إلى مخرجات ونتائج قد تتفق أو تختلف مع ما سبقها من نتائج ومخرجات للحوارات واللقاءات السابقة التي انعقدت في كل من عدن وسيئون.

> قضية واحدة.. وحوارات كثيرة

من الملاحظ إن المشهد السياسي في الجنوب يعاني من تعدد المكونات والكيانات والتيارات السياسية، إذ أصبح الانقسام السياسي بينها واضحا للعيان، وانعكس هذا الانقسام على الحوار السياسي بين تلك القوى ما بين التشكيك ببعضهم البعض والقدرة على الوصول للتوافقات بشأن تمثيل القضية.

يرى متابعون للمشهد السياسي الجنوبي أن هذه الانقسامات، قد تتجاوز طبيعة البحث في المشكلة والقضية الجنوبية، وما هو خيار الحل الأمثل لها، إذ تتعدد خيارات الحل للقضية الجنوبية وفق عدة رؤى لعل أبرزها ما عرف بخيار "استعادة الدولة" أو "فك الارتباط" الذي يتبناه المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من أبوظبي وقوى حراكية أخرى انضمت إليه مؤخرا.

في نفس السياق تقدم قوى ومكونات جنوبية أخرى حلولا في إطار اليمن الواحد وتتبنى الصيغة السياسية الفدرالية - كما هو في مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في العاصمة صنعاء بين عامي 2013 - 2014، وهناك مكونات جنوبية أخرى تتبنى خيار "فك الارتباط" لكن ليس بشكل فوري وإنما بشكل تدريجي على صيغة سياسية كونفدرالية تنتهي باستفتاء شعبي على تقرير المصير بفترة زمنية لا تتعدى خمس سنوات، وهذا الخيار الأخير تم تبنيه من قبل مؤتمر القاهرة 2011 الذي حضره الرئيس الأسبق لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية علي ناصر محمد ورئيس الوزراء في دولة الوحدة المهندس حيدر أبوبكر العطاس وآخرون.

وحسب هذا الرأي فإن الصراع بين القوى والمكونات السياسية الجنوبية يكمن حول الزعامة والتمثيل للقضية الجنوبية في المحافل المحلية والإقليمية والدولية.

وفق سياسيين جنوبيين، فإن ما يعزز من هذا الانقسام الجنوبي التدخلات الإقليمية وحالة الاستقطاب السياسي الحادة لمختلف قوى الحراك الجنوبي الثوري منه والسلمي والحزبي على حد سواء.

مما لا شك فيه أن هذا التشرذم الجنوبي في الرؤى والأولويات وطرق المعالجة، قد يضعف من القضية، ما لم تجري حوارات جادة وشفافة بين تلك القوى، تسهم في تضييق مساحة التباينات في المواقف والرؤى، وتجعل من الجميع يسيرون خلف قضية واحدة ومصير واحد.

> تعدد في الرؤى.. أم غياب للثقة؟

من الواضح للمتابعين أن هناك حالة عدم ثقة بين المكونات الجنوبية المختلفة، سواء تلك التي تتبنى خيار فك الارتباط الفوري أم تلك التي تتبنى خيار فك الارتباط بشكل تدريجي، أو تلك القوى الحزبية الجنوبية الوحدوية التي تتبنى خيار اليمن الواحد متعدد الأقاليم.

ووفق محللين سياسيين، فإنه لم يكن في الحسبان أن تبرز إلى السطح "القضية الحضرمية" على هامش هذا الصراع الجنوبي، وتعلن عن نفسها كقضية مختلفة نوعا ما، فالأصوات التي تتبنى هذه القضية تزعم أن حضرموت ليست يمنية ولا هي جنوبية.

ما يزيد المشهد الجنوبي السياسي سخونة، هي ظاهرة الاستئثار بالحوار السياسي، والبحث عن الصدارة لتمثيل هذه القضية والتفاوض نيابة عن الآخرين لتحديد مصيرها- يقول آخرون.

تبدو المقاطعات في نظر البعض طبيعية بين القوى والمكونات الجنوبية لاختلاف التوجهات والتجارب السياسية، وتجري الجهود لتجاوز الصعوبات التي تعترض تحقيق التوافقات على طريق صياغة رؤية جنوبية مشتركة تساهم في تعزيز نهج الحوار بدلا عن دوامة الصراع السياسي التي عانى منها الجنوب كثيرا.

> وفد تفاوضي.. أم عدة وفود؟

تشير المعطيات السياسية الحالية للمشهد السياسي للقوى والمكونات الجنوبية إلى ما سيؤول إليه ملف التفاوض السياسي بشأن القضية الجنوبية في سياق الحل الشامل، فمن المتوقع أننا ذاهبون إلى أكثر من وفد تفاوضي جنوبي يدعي تمثيل القضية، ما لم تجر حوارات جنوبية - جنوبية تفضي إلى وفد يتوافق عليه الجميع.

وفق نظر الكثير من السياسيين الجنوبيين، فإن التاريخ السياسي الجنوبي قد شهد تجارب من هذا النوع، وهو أن يذهب فصيل ثوري أو مكون حزبي وسياسي بالتفاوض عن الجميع، دون أن تتوافق كل الفصائل والمكونات والكيانات الثورية والحزبية على هذا الخيار أو ذاك.

بصورة أوضح يخشى البعض من تكرار تجربة الاستقلال من الاستعمار البريطاني 1967، حين انفرد يسار الجبهة القومية بملف التفاوض السياسي بعد أن تم اقصاء وتهميش يمينها، أما التجربة الأخرى التي ما يزال يعيش جنوب البلاد آثارها ونتائجها، حين  قرر الدخول في دولة اندماجية مع الشمال ثم انتهت هذه التجربة إلى الفشل السياسي.

يرى باحثون ومختصون أن الذهاب إلى حوارات تحت سقف فك الارتباط أو الانفصال دون السماع إلى المكونات الجنوبية الأخرى التي تخالف بالرأي، والسماح بطرح خياراتها على الطاولة ومناقشتها، فإن ذلك قد يؤدي إلى نتائج تنعكس سلبا على الحلول المقدمة للقضية الجنوبية، وقد لا يدرك مناصرو خيار فك الارتباط بشكل فوري المخاطر والتكاليف الباهظة التي ستلحق بالقضية، إذا ما تم تجاهل الخيارات العقلانية الأخرى التي قد تصب في خدمة القضية بشكل أفضل.

> مستقبل القضية.. في ظل تعدد الكيانات والحوارات

كما يبدو، فإن تجربة (نفق جولد مور) قد عافها الجنوبيون، ولا يريدون للقضية الجنوبية أن تمر في نفق آخر وفق خيار أحادي لا يأخذ رأي الجميع.

الأغلب من القوى الجنوبية يؤكدون أن الإجماع هنا مهم، ولذا يجب أن تشمل اللقاءات التشاورية الجنوبية كل الكيانات الفاعلة في المحافظات الجنوبية من الحركات والقوى والفصائل والأحزاب السياسية النضالية دون إقصاء أو تهميش أو استفراد بالقرار التفاوضي على قضية تمثل اليوم مفتاح السلام في المنطقة وأساس الحل للقضية اليمنية برمتها.

يتطلع الجنوبيون هذه المرة إلى تجربة مختلفة، لا يحضر فيها العقل السياسي الجنوبي الإقصائي الذي تسبب بكوارث على جنوب البلاد منذ الاستقلال عن بريطانيا 1967، وما تبعه من مراحل سياسية أفضت إلى ما آل إليه وضع الجنوب اليوم.

ما يخشاه البعض هو تكرار هذا الإرث السياسي الذي كان ينبغي تجاوزه، عطفا على الأحداث السياسية التي مر بها الجنوب.

هناك من يشكك باستطاعة المجلس الانتقالي الجنوبي في أن يذهب منفرداً بتمثيل القضية الجنوبية، دون ممثلي الكتلة الشرقية الجنوبية الأكبر مساحة وسكانا، كمؤتمر حضرموت الجامع، ومرجعية وحلف حضرموت، وكتلة حضرموت النيابية وقيادة الهبة الحضرمية، والعصبة الحضرمية، ولجنة اعتصام المهرة والمجلس العام لأبناء المهرة، بالإضافة إلى كيانات سياسية وحزبية مؤثرة كالائتلاف الوطني الجنوبي الذي يقوده رجل الأعمال الشيخ أحمد صالح العيسي، والمؤتمر الشعبي العام الجنوبي الذي يقوده المهندس أحمد الميسري، والمؤتمر الوطني لشعب الجنوب بقيادة محمد علي أحمد.

وهناك شخصيات اجتماعية لها كلمتها غابت أيضا عن مشاركة الانتقالي حواره كالشيخ القبلي المؤثر صالح بن فريد العولقي، والرئيس علي ناصر محمد ورئيس الوزراء الأسبق حيدر أبوبكر العطاس، وغيرهم من القيادات الجنوبية.

نزعة الانفصال لدى مكوّنات حضرموت تتصادم مع مشروع «فكّ الارتباط».

احتضنت قاعات فندق «فوكو» في الرياض، على مدى الأيّام الماضية، نقاشات واسعة بين عدد من المكوّنات الحضرمية، تركّزت حول رؤية هذه الأخيرة لمستقبل حضرموت، وسط دعوات إلى اعتمادها إقليماً مؤقّتاً في إطار دولة اتحادية، وصولاً ربّما إلى إعلانها دولة مستقلّة عن الجمهورية اليمنية. 

وبحسب مصادر ديبلوماسية، فإن تلك المكوّنات أقرّت تشكيل وفد من أجل المشاركة في أيّ مفاوضات خاصة بالحلّ الشامل للأزمة. ومن ضمن الترتيبات العسكرية التي طالبت بسرعة تنفيذها، مغادرة قوات المنطقة العسكرية الأولى الموالية لحزب «الإصلاح» مديريات وادي حضرموت، وكذلك قوات النخبة الحضرمية التابعة لـ«المجلس الانتقالي الجنوبي» من مديريات الساحل، واستبدالها بقوات «درع الوطن» المنشأة بدعم سعودي، فضلاً عن تجنيد الآلاف من أبناء حضرموت للقيام بالمهام الأمنية في المحافظة، ومنح الأخيرة 50% من عائدات ثرواتها النفطية. 

وأشارت المصادر إلى أن قيادات سياسية وعسكرية تنحدر من حضرموت استُدعيت من عدد من الدول العربية للتوقيع على مخرجات اللقاءات التشاورية الأخيرة، والتي تسعى السعودية من ورائها إلى تعزيز حضورها العسكري في المحافظة النفطية.

من جهتها، حذّرت مصادر في الحكومة اليمنية، من تداعيات أيّ مصادقة غير معلَنة لرئيس مجلس القيادة الرئاسي، رشاد العليمي، المتواجد في الرياض، على رؤية المكوّنات الحضرمية، والتي تطالب عملياً بإقليم مستقلّ بصلاحيات واسعة، وهيمنة شبه كاملة على الموارد والمقدّرات بشكل مؤقّت حتى التمكّن من «الاستقلال»، ومنح المحافظة الحقّ في التوقيع على الاتفاقيات والمعاهدات في مجال الاستكشافات النفطية والمعدنية وعقود الاستثمار، فضلاً عن الاستقلال الأمني والعسكري عن الدولة المركزية. 

والواقع أن هذه المطالب ليست وليدة اللحظة، ولم تُرفع فقط نكايةً بمطالبة «الانتقالي الجنوبي» بالسيطرة على وادي حضرموت بشكل كلّي، بل هي ناتجة من لقاءات سابقة انعقدت في المكلا وسيئون ومناطق أخرى من المحافظة التي تشكّل مساحتها نحو ثلث اليمن. 

وبدأت تلك التحرّكات مطلع عام 2011، بالإعلان عن وثيقة «حضرموت... الرؤية والمسار»، واستُكملت مع المطالبة بـ«إقليم المحافظات الشرقية» عام 2013، وصولاً إلى تكرار المطلب نفسه في «مؤتمر حضرموت الجامع» عام 2017 والعام الماضي.

ولم يعترض أيّ من الأحزاب الموالية لـ«التحالف»، حتى الآن، على ما طُرح في مشاورات «فوكو»، باستثناء القيادات الموالية لـ«الانتقالي الجنوبي»، والتي ترفض أن تكون حضرموت إقليماً مستقلّاً في إطار الدولة اليمنية، وترى أنه يمكن تحقيق ذلك في إطار دولة الجنوب. 

وعلى رغم خطورة المشروع الأخير، إلّا أن الأوّل لا يقلّ عنه، بالنظر إلى التفاف عدد كبير من أبناء المحافظة حوله، ورفضهم ما يسمّونه إلحاق حضرموت بأيّ مشروع آخر. 

وفي هذا الإطار، أقيمت في العشرين من كانون الأول الماضي فعالية «اليوم الوطني لحضرموت»، حيث رُفعت أعلام «السلطنة الكثيرية» التي اتفقت مطلع عام 1962 مع «السلطنة القعيطية» على إقامة «دولة حضرموت الموحدة».

 واللافت أن التوجّه المستجدّ للمكوّنات الحضرمية لم يُبحث مع أيّ مكوّنات تمثّل محافظتَي شبوة والمهرة، على رغم ضمّ هاتَين الأخيرتَين في إطار مشروع «إقليم حضرموت» الذي حاولت الرياض تمريره عبر مؤتمر «الحوار الوطني» الذي جرى في صنعاء برعاية «مجلس التعاون الخليجي» عامَي 2013 و2014. 

وعكس ذلك رغبة سعودية في تحييد حضرموت، بعدما رفضت قبائل المهرة تواجد الرياض العسكري في المحافظة الواقعة على الحدود الشرقية لليمن مع سلطنة عمان، وارتخت قبضة المملكة على شبوة.

خلاصة القول، من المهم تحقيق إجماع وتوافق سياسي جنوبي حول مضامين التغيير المنشود لجنوب ما بعد الحرب، لكنه في نفس الوقت لا يجب أن يذهب كيان وأحد من الجنوبيين، ويدعي أن له الحق الحصري، لما لهذا الخطوة، إن حدثت، من مخاطر سياسية على مسار القضية الجنوبية تعيد ماضي الصراعات وتضع كوابح أمام الحل العادل للقضية الجنوبية حاضرا ومستقبلا.

عدن الفد - الرأي الثالث