لغز السيادة الأوروبية الضائعة

 يبدو لافتاً جداً منحى السياسات الأوروبية في لحظة عالمية مضطربة مشحونة بتنافس الجميع ضد الجميع في إطار نظام عالمي يبدو متداعياً، لكن من دون اكتمال نظام بديل يحوز قبولاً من القوى الكبرى الرئيسة المتقابلة؛ ففي حين تسعى قوى صاعدة عديدة إلى مجابهة الهيمنة الأميركية على النظام الدولي، تحاول دول أخرى متوسطة الحجم إحداث توازنٍ في علاقاتها بين الغرب والشرق. 

ومع أن هذه الدول لا تعتبر من العالم الأول بعد، إلا أنها تتفوق اليوم على جزء كبير من دول العالم الأول من ناحية الإمساك بقرارها السيادي واستقلالها الاستراتيجي.

 وهنا، تبرز المفارقة الكبيرة، إذ ذوت خلف الإرادة الأميركية إمبراطورياتٌ تقليدية كان لها نفوذ عالمي هائل في يوم من الأيام. وقد ساهمت في تطور الفكر السياسي، ومنها فكرة سيادة الدولة، وفيها تبلور مفهوم الدولة الأمة.

ويمكن القول إن أوروبا الآن بأغلب دولها واقعة ضمن هذا التصنيف للقوى الفاقدة للسيادة في سياساتها الخارجية. وقد أبرزت الأزمة الأوكرانية، كما حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، هذه الحقيقة.

ويعود منحى الدول الصاعدة الباحثة عن الاستقلال السياسي إلى جذر اقتصادي في الدرجة الأولى، ثم تجتمع حوله عوامل أخرى تتعلق بتاريخ هذه الدول وثقافاتها وحسها الأمني الاستراتيجي. 

لكن المبعث الاقتصادي يحكم نظرة هذه الدول، وهو في ظل التغيرات في النظام الاقتصادي الدولي يبدو ملحاً على صانعي القرار في هذه الدول لمغادرة صف التعليمات الأميركية إلى موقع الحياد، على أقل تقدير.

ومن معالم ذلك، سعي دولي حقيث إلى الموازنة بين استخدام الدولار وعملة RMB الصينية، التي كتبت مجلة "ناشونال إنترست" في الرابع والعشرين من آذار/مارس أنها سوف تصبح وسيلة للحفاظ على الحياد الاستراتيجي وسط التفتت الجيوسياسي العالمي.

ومع صحوة متسعة في أفريقيا، وسعي إلى اقتناص الفرص في تركيا والهند، وكفاح للتقدم في ظل قيادة لولا دا سيلفا في البرازيل، تبدو منطقة الشرق الأوسط من المناطق الأكثر تحفزاً للبحث عن هذا التوازن، على الرغم من بقاء دول أساسية فيها تدور ضمن الفلك الأميركية، لأسباب عديدة أبرزها الخوف من النمط الأميركي المعتاد في قلب الأنظمة وتخريب البلاد التي تبدو منها إشارات السيادة، ذلك أن تركيبات الحكم في هذه الدول أكثر هشاشة من أن تتمكن من حماية حملة وعي سيادي تتطلع إلى المستقبل، من دون أوامر واشنطن أو أخذ مصالحها بالحسبان قبل مصلحة هذه الدول نفسها.

يتقدم النموذج الإيراني في الشرق الأوسط على غيره في منحى السيادة الاستراتيجية، لكونه أسس لنمط مناسب لما يحدث الآن من تغيرات منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979. وحتى الآن، لا تزال طهران هي العاصمة الأكثر مراهنةً على التحولات العالمية، والسابقة غيرها لناحية التأسيس لمرحلة ما بعد أميركا في الشرق الأوسط.

وفي مختلف النواحي، السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والثقافية… افتتحت إيران المواجهة الأولى الواسعة ضد الهيمنة الأميركية في المنطقة منذ 45 عاماً.

الآن، تلتحق دول أخرى في المنطقة بهدا النموذج، لكن مع فوارق جوهرية بين حالتها وحالة كل واحدة من هذه الدول. وإذا كانت مواجهة الإرادة الأميركية صعبة ومكلفة، فإن البدء من نقاط معينة يبدو أسلوباً التفافياً من هذه الدول لتجنب الغضب الأميركي الشامل. وفي حين واجهت إيران اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وثقافياً… أي استراتيجياً بصورة مختصرة، تبدأ دول أخرى من تقليص اعتمادها على الدولار. وبمعنى ما، المشاركة في مواجهة مع الدولار تقودها الصين وروسيا اليوم.

مع توسع النفوذ الاقتصادي للصين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أصبحت دول المنطقة تدرك بصورةٍ متزايدة المخاطر الناجمة عن اعتمادها المفرط على الدولار الأميركي. وهكذا، بدأت هذه الدول بإبرام صفقات بيع الطاقة مقابل RMB الصيني بدلاً من الدولار، ثم انضمت مصر وإثيوبيا والإمارات والسعودية وإيران إلى مجموعة "بريكس"، وراحت تتطلع إلى حماية مصالحها على المدى الطويل من خلال تقليص الارتباط بالدولار.

وعلى الرغم من أن هذا المنحى لم يظهر بعد بكل حضوره في السياسات الخارجية لهذه الدول، تبقى الضرورة الاقتصادية والمالية تلح على هذه الدول على المدى البعيد، من أجل أن توائم سياساتها الكلية مع مصالحها الاقتصادية طويلة الأجل، وهذا، مع الكثير من الحذر والحنكة المطلوبين لأصحاب السياسات المتوازنة، يمكن أن يضع هؤلاء في خانة الحياد الجيوسياسي قبل تكشف الصراع بين القوى الكبرى عن نتائج واضحة وقوانين تالية له يمكن للعالم أن يركن إليها.

ومع أن الدولار لا يزال يحتفظ بدور بالغ الأهمية على المستوى الدولي في جميع وظائف المال الثلاث (كوحدة حسابية، ووسيلة للتبادل، ومخزن للقيمة)، ويشكل ما يقارب 90% من معاملات الصرف الأجنبي، ونصف عملة الفاتورة في التجارة العالمية، ونصف القروض عبر الحدود وسندات الدين الدولية، لكن حصته في الاحتياطات العالمية انخفضت إلى أدنى مستوى لها منذ عقود، لتصل نسبتها 58% بعدما كانت 73% قبل نحو عقدين من الزمن.

لكن لمَ التطرق إلى الدولار في سياق بحث سيادة الدول؟ 

يحد الاعتماد على الدولار من السيادة الاقتصادية للدول، من خلال زيادة تعرضها لتقلبات الاقتصاد الأميركي، ولا سيما تلك التي ترزح تحت ديون مرتفعة وثقيلة، إذ يؤدي مستوى أسعار الفائدة في الولايات المتحدة دوراً مؤثراً في واقعها الاقتصادي، من خلال زيادة كلف الاقتراض بالعملة الأميركية، ثم كلفة خدمة تلك الديون، إضافة إلى تضخم أسعار الواردات، الأمر الذي يؤدي إلى خنق اقتصادات الدول التي لا تملك أن تجرب تحولات مصلحية تتناسب مع واقعها وإرادة شعوبها.

وإذا كانت هذه الدول مناوئة للسياسة الخارجية الأميركية، فهي سوف تتعرض لضغوط موجهة تؤدي إلى فقدانها الاستقرار الاقتصادي، ثم الاجتماعي والأمني والسياسي أو بأي ترتيب مختلف، ولا يكون أمامها سوى الرضوخ والعودة إلى السجود أمام الدولار ودولته. 

الأمثلة على ذلك لا تحصى، ويمكن النظر بهذه العين إلى الأزمات الاقتصادية المعاصرة التي تطال كل دولة لا تنسجم في الوقت المطلوب مع الأوامر الأميركية. والأكثر إثارةً في المسألة هو أن هذه الدول ليست بالضرورة مناهضة للمصالح الأميركية حتى تتعرض للخنق الاقتصادي، بل يكفي ألّا تتصرف كما هو منتظر منها أميركياً في التوقيت المناسب، لتحصل على جرعة اضطراب اقتصادي تقدّر فاعليتها بحسب الطلب، فإما تنصاع فتعطى الترياق، وإما تترك للانهيار، وليأكل شعبها سيادتها، ويعيد إلى السلطة من يكون متعاوناً ومختوماً بالختم الأميركي الشهير كقائد من العالم الحر.

أوروبا العالم الحر

وفي أوروبا، حيث أعلى نسبةٍ من قادة العالم "الحر"، تبدو السيادة شيئاً من الماضي، وهي لا تنعكس في السياسات الجارية أو في التخطيط البعيد حتى للدول الأوروبية. تبدو شيئاً بعيداً ذاوياً، غير واضح الشكل والهيئة.

التصريحات التي تشير إلى الرغبة في تحقيق السيادة الأوروبية وامتلاك القدرة على الدفاع عن أوروبا في مواجهة المخاطر المتزايدة لا تأتي إلا من ضمن الوصفة والتصنيف الأميركيين لمصادر هذه المخاطر. وكما كانوا في السنوات الماضية الإسلاميين المتشددين، هم اليوم المقاومات (التي صنفت الدول الأوروبية عدداً منها في لوائح الإرهاب) وروسيا، مع ميل واضح وعدم قدرة حالية لإعلان العداء التام للصين.

وعلى الرغم من اقتصار انخراط الصين في الصراعات على دور الوساطة والتدخل الإيجابي والسلمي، فإن التحذيرات الأوروبية من دورها تتصاعد، وخصوصاً في سياق بحث الفجوة التجارية الكبرى بينها وبين الاتحاد الأوروبي، ذلك أن إرادةً خارجية لا تريد لهذه الدول أن تنظر إلى مصالحها، بل إلى هيمنة لا سؤال فيها للغرب على النظام الدولي، بحيث تتحول الدول الغربية الآن إلى وحش جاهز ليعلن عداءه لأي قوة جديدة صاعدة، حتى لو كان مستفيداً من صعودها، من أجل الحفاظ على النظام الذي تتزعمه أميركا، وتعطي هذه الدول من حلفائها رفاهيةً مبنية على سرقة بقية العالم.

إذاً، بالنسبة إلى الأوروبيين، هو بيع للسيادة مقابل الحفاظ على مستوى مسروق من الرفاهية أو مأخوذ من طريق الابتزاز والترهيب، والضمانة الكبرى له هي الهيمنة الأميركية على العالم. وهكذا يكون الدور المطلوب من أوروبا هو أن تفعل كل ما هو ممكن لدعم تلك الهيمنة وإدامتها، حتى لو كان ذلك يقتضي التبرع بإرسال الجنود إلى أوكرانيا وإعادتهم بتوابيت إلى بلدانهم أو التعبير عن الحاجة لتحالف دولي للقضاء على "حماس" شبيه بالتحالف ضد "داعش".

مع هذا النهج، تبدو أوروبا شبحاً لقارة قوية خرجت من التاريخ، واجتيحت بأيديولوجيا الليبرالية المتوحشية التي قضت على اقتصاداتها وطبقتها المفكرة والمستقلة، وعلى ولاداتها والعائلات فيها، من خلال غزو المثلية والتحول الجنسي وما إلى ذلك… وقبل كل شيء، على إرادتها الخاصة كدول مستقلة، والتي يعبر عنها بمفهوم السيادة لدى الدول أولاً وآخراً.

يتم ذلك كما هو واضح من متابعة عملية تداول السلطة في الدول الأوروبية، من خلال الإمساك بالنخب السياسية في هذه الدول أو اختراعها. الآن، يدخل جيل جديد شاب إلى أعلى الهرم القيادي في هذه الدول، بصورةٍ تشبه الموضة الأميركية سريعة الرواج وكثيفة التلميع. في فرنسا مثلاً، وصل غابريال آتال إلى رئاسة الوزراء، ومعه ستيفان سيجورنيه إلى وزارة الخارجية، وهما في مطلع الثلاثينات ومثليا الجنس. وفي قيادة المعارضة، يسير جوردان بارديلا المولود عام 1995 بحزب الجبهة الوطنية صعوداً، مهدداً بتغيير وجه فرنسا وصبغه بألوان اليمين المتطرف.

ثلاثة مواقع بالغة التأثير في البلاد وفي التوجهات الأوروبية العامة ممسوكة من قيادات لا تمتلك من ذاكرة العلاقات الدولية شيئاً، وهذه القيادات ممسوكة بدورها من السيد الأميركي وشركاته الكبرى، وهو الذي يوزع الحظوظ والأدوار.

هذا النمط أوصل مثل هؤلاء في ألمانيا وبريطانيا والدول الإسكندنافية، وفي بروكسل، مقر الاتحاد الأوروبي، وقبلهم جميعاً هو الذي حوَّل كوميدياً إلى رئيس لأوكرانيا التي حولها بدوره إلى تراجيديا حية، ربما ستختفي من التاريخ، لكن المصلحة الأميركية حاضرة.

واليوم يطرح السؤال الكبير في أوروبا: هل هناك فرصة بعد الآن لتعود أوروبا عظيمة؟ وذلك على غرار السؤال نفسه الذي تجرأ ترامب على طرحه وحوله إلى شعار لحملته الانتخابية حين وعد بـ"جعل أميركا عظيمة مجدداً". 

وبالنسبة إلى الأوروبيين، فإن أول الدرب في استعادة أوروبا عظيمة يكون بالاعتراف بأنها لم تعد كذلك، ثم فهم أن "أميركا عظيمة" تفرض حكماً أوروبا أقل عظيمة، بل إن المفهومين يتناقضان مع مرور الوقت، ذلك أن أميركا تمتص فرص أوروبا من المستقبل، وهي، كما ورثت الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية بعد الحربين العالمتيين، جاهزة لاستتباعهما واستخدامهما في خوض الحرب العالمية الثالثة، وهذا واحد من دروس أوكرانيا الكثيرة.

* نور الدين إسكندر