طالت الحرب؟ لله حكمة!

 مع مرور أكثر من ستة أشهر على العدوان على غزة، يبدو أن الكيان انزلق إلى حرب استنزاف لا يعرف كيفية الخروج منها.

والاستنزاف، في التعريف، هو مفهوم متعلق بعامل الوقت، بحيث تتراكم التكلفة مع مروره. 

وهو ما نجحت المقاومة في استدراج الكيان إليه فيما يبدو أنه مصيدة استراتيجية (راجع مقال "هل يمثّل 7 أكتوبر وما بعده مصيدة استراتيجية للكيان؟").

حاول الكيان قلب معادلة الاستنزاف الذي ينال منه في الصعد إلى استنزاف في الجانب الفلسطيني فيما يتعلق بالمدنيين، بحيث نجح في القتل والتشريد والتدمير والتجويع، في جرائم غير مسبوقة في التاريخ الإنساني المعاصر، وبتواطؤ وتخاذل عربيين ودوليين، لكنه فشل، مع ذلك، في كسر المقاومة الأسطورية، كما فشل هو وأبواقه، من خونة ومرتزقة، في تأليب الحاضنة الشعبية ضد المقاومة.

ويبقى الاستنزاف في معناه الواسع (سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإعلامياً وعسكرياً وأخلاقياً وقانونياً) محاصِراً للكيان من غير مخرج، بل إن حالته وحالة داعميه تزدادان تفاقما مع مرور الوقت. وهنا يكمن جوهر الاستنزاف.

فلو لم تطل الحرب لما تعزز انكشاف ضعف الجيش "الذي لا يُقهر" حينما تكبد الخسائر وضاع أكثر من ستة شهور في وحل غزة، بمساحتها الصغيرة البالغة 360 كيلومتراً مربعاً، بعد أن كان في مقدوره الاحتلال والسيطرة على عشرات أضعاف تلك المساحة في غضون ساعات في حرب عام 1967. فشبه جزيرة سيناء، وهي جزء مما تم احتلاله في تلك الحرب المسماة حرب الأيام الستة، تبلغ مساحتها وحدها ما يزيد على  60,000 كيلومتر مربع، أي ما يزيد على مساحة قطاع غزة بمئة وستة وستين ضعفاً!

لو لم تطل الحرب، لما تبدلت حالة التعاطف الدولي مع دموع الكيان عقب ضربة أكتوبر والتي حاول استغلالها، كعادته، لتصوير نفسه ضحيةً، متجاهلا اغتصابه الأرض والحقوق على مدار العقود. وبمرور الوقت بعد ضربة أكتوبر، انفضح إجرام الكيان حتى أصبح منبوذاً عالمياً وملاحقاً قضائياً بأحط أنواع التهم، وهي التطهير العرقي والإبادة الجماعية.

لو لم تطل الحرب لما انكشف المنافقون والمرتزقة والخونة في فلسطين والمنطقة العربية، كما هم مكشوفون الآن. فبعد أعوام طويلة من الطعن في المقاومة والتحريض ضدها، صمت هؤلاء بعد هول مفاجأة أكتوبر. لكن، مع مرور الوقت، وبعد أن بدأ الأنين بفعل وحشية الكيان يتعالى، استغل هؤلاء مواطن الضعف في النفس البشرية في الأوقات الحرجة، واستأنفوا دورهم في التحريض وتأليب الحاضنة الشعبية ضد المقاومة، وهو ما أدى إلى انفضاحهم. 

ولو لم تطل الحرب لما تم اندحار الفتنة الطائفية التي اختلقها ورعاها العدو وأعوانه وبلغت أوجها في حرب سوريا لتفتك بالسنة والشيعة؛ تلك الفتنة التي حاولت قوى غربية ورجعية عربية أبعد ما تكون عن الديمقراطية ومعروفة بعدائها التاريخي للمقاومة، استغلال العطش الشعبي للحريات السياسية في إبان فترة "الربيع العربي"، وتحت مسميات التغيير الديمقراطي، لتمويل ـ واختلاق ـ فتنة طائفية تستهدف شق المقاومة وحاضنتها وبث الخلاف والفرقة بين أطيافها.

وبمرور الوقت بعد ضربة أكتوبر، وظهور جبهات المقاومة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، ودورها في مساندة المقاومة في غزة، وجدت تلك الأطياف، التي كانت منقسمة في الأمس، نفسها متضامنة اليوم، في مواجهة الكيان وجرائمه، ومتحدة تحت البوصلة التي لا تضل طريقها، بوصلة فلسطين.

ولو لم تطل الحرب لما انكشفت القذارة والخيانة والتواطؤ لأنظمة عربية وإسلامية كما هي مكشوفة الآن أمام شعوبها. ولطالما تمت خديعة تلك الشعوب بمواقف تخفي التنسيق القائم بينها وبين الكيان، أمنياً وسياسياً، والمستمر منذ عقود ضمن مخطط بقاء السيطرة والنفوذ الغربي بصورة عامة، والأميركي بصورة خاصة، على هذه المنطقة ومواردها.

وبمرور الوقت خلال هذه الحرب، رأينا أنظمة عربية تقيم جسراً برياً لإمداد الكيان باحتياجاته (للالتفاف على عمليات اليمن في حصار الكيان) في وقت صمتت أو ساهمت لشهور في حصار أهل غزة وتجويعهم في ظل إبادة الكيان الجماعية لهم! فما سجله التاريخ عن دور هذه الأنظمة في التآمر على فلسطين وبيعها في الماضي، رآه القاصي والداني في الحاضر.

ولو لم تطل الحرب، لما انكشف الزيف والانحطاط لمنظومات دولية وحكومية منضوية تحت حضارة غربية براقة في ظاهرها، متوحشة في باطنها، أمام شعوب العالم كافة.

هي المنظومات ذاتها التي لم تر غضاضة في تهجير الفلسطينيين وقتلهم منذ أربعينيات القرن الماضي، لتجعل وجود الكيان حلاً لمشكلة تاريخية متعلقة بالوجود اليهودي، وخصوصاً في القارة العجوز، وقاعدة عسكرية اقتصادية متقدمة للغرب، راعية لمصالحه ومانعة لنمو المنطقة لتبقى استهلاكية، متخلفة، منهكة، غير قادرة على السيطرة على مواردها، ليتضافر ذلك مع مصالح رأس المال وسلطته فيما يسمى العالم المتقدم الذي يهيمن على الحكومات ويحولها الى "أراغوزات" لخدمة مصالحه.

فوجدنا تلك المنظومات التي أشبعت العالم حديثاً عن القانون الدولي وحقوق الإنسان، زاعمة استخلاصها الدروس المترتبة عن مآسي الحرب العالمية الثانية، ليس فقط متجاهلة حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والحرية والاستقلال كسائر شعوب الأرض، بل مشاركة ومتواطئة في إبادته من خلال إمداد الكيان بما يلزم من معدات وذخيرة فتاكة، ليصل ما ألقي على غزة من متفجرات إلى أضعاف ما ألقي على هيروشيما وناغازاكي خلال الحرب العالمية الثانية!

وما بعض التغير في لهجة تلك المنظومات في الآونة الأخيرة إلا نتيجة انفضاح أمرها مع مرور الوقت امام شعوبها وخوفها من ارتدادات ذلك على مصالحها، وخصوصاً الانتخابية منها، وليس نتيجة اكتشاف متأخر لإنسانية مفقودة، فالمنظومة الأخلاقية لم تكن موجودة لدى هؤلاء ولن تكون!

إنه الطوفان وارتداداته الاستنزافية الهائلة، والتي ستتعدى، بمرور الوقت، فلسطين، بكثير، والله أعلم.

* عمرو الصوراني - استاذ جامعي فلسطيني - بريطانيا.