روسيا وأوكرانيا.. حقائق تاريخية لا تعجب المزوّرين

 موقع "Responsible Statecraft" ينشر مقالاً للكاتب نيكولاي بترو، وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة رود آيلاند في الولايات المتحدة، الذي شغل سابقاً منصب المساعد الخاص لوزارة الخارجية الأميركية لشؤون السياسة المتعلقة بالاتحاد السوفياتي في عهد الرئيس جورج بوش الأب. وقد تحدث في المقال عن الأصل التاريخي لأوكرانيا. 

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

فقدت أوكرانيا بيوتر تولوشكو، أحد أبرز المؤرخين وعلماء الآثار، عن عمر ناهز 87 عاماً في العاصمة كييف في الشهر الماضي. وكان الراحل قد كرس حياته لدراسة التاريخ المبكر لأوكرانيا، من ضمنها 30 عاماً رئيساً لمعهد الآثار التابع لأكاديمية العلوم الأوكرانية، وفاز مرتين على التوالي بمقعد في البرلمان الوطني. وبفضل جهوده، أعلن عن أول قانون لحماية تراث أوكرانيا الأثري عام 2004.

ترك تولوشكو خلفه مئات المقالات وعشرات الدراسات، وحاز جائزتين حكوميتين في العلوم والتكنولوجيا وإشادة وتقديراً وتعيينات في العديد من الأكاديميات الأوروبية والدولية، فهو لم يكن مؤرخاً عادياً، وكثيراً ما أقلقت أبحاثه الطبقة السياسية في بلاده. وقد وبّخهم باستمرار لإساءة استخدام التاريخ الأوكراني والكذب على الأوكرانيين بشأن ماضيهم، لأن السياسة بالنسبة إلى هذا المفكر لا بد من أن تستند إلى أساس تاريخي سليم، وهذا إيمان راسخ بالنسبة إليه وعلمي في آن أتاح له استخدام سلطته الأكاديمية الراقية ليثبت أن سردية الحكومة عن أصول مختلفة بين الأوكرانيين والروس زائفة بالكامل.

بالاعتماد على معرفته الموسوعية بالتاريخ الأوكراني، أشار تولوشكو إلى العديد من الحقائق التاريخية غير المريحة للمزوّرين عن أنّ أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا نشأت جميعها من حضارة واحدة كانت لقرون في بوتقة واحدة ودين ولغة مشتركين، عرفت عن نفسها ببساطة بالثقافة الروسية الغنية داخلياً بتعدد أعراقها، فتجد في الشمال وقطاعه الغربي عرق فيليكوروس أو "الروسي العظيم"، وفي الغرب، بيلاروسيا أو "روسيا البيضاء"، وفي الجنوب عرق مالوروس أو "الروسي الصغير"، وكانت هناك جماعات أخرى، مثل "بلاك روس" في أقصى الشمال، و"رد روس" في غاليسيا الأوكرانية الحديثة، لكن الذين تطوروا واستمروا هم الفئات الثلاث الأولى المذكورة التي نعرفها اليوم باسم دول روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا.

رفض تولوتشكو رؤية أي عيب في مصطلح "الروسي الصغير" الذي يثير كراهية شديدة بين العديد من الأوكرانيين اليوم. ولطالما وصف المؤرخ المشاكس نفسه بأنه "مالوروس"، وأوضح أن القوميين الأوكرانيين شوّهوا معنى المصطلح عن علم وقصد، لكون وصف "الروسي الصغير" ليس إشارة إلى الحجم، بل إلى الجزء الأقدم من الثقافة الروسية في معقلها الحقيقي.

وأشار إلى مسألة جدلية أخرى في التاريخ حول قرار انضمام الثائر الأوكراني بوهدان خميلنيتسكي إلى الإمبراطورية الروسية عام 1654، باعتباره خطوة لإعادة توحيد "الروس العظماء والصغار" معاً. وعلى الرغم من الفقدان التدريجي للحكم الذاتي المحلي، فقد اعتبره أمراً جيداً لأوكرانيا، فمن دونه كان من المحتمل أن تسيطر بولندا على النصف الغربي من أوكرانيا وتفقد هويتها الثقافية والدينية واللغوية.

يعتبر تولوتشكو أنّ أوكرانيا لم تظهر كأمة عرقية وسياسية إلا بعد انهيار الإمبراطورية الروسية، وبفضل قيام الدولة السوفياتية التي قسمت الأقاليم إدارياً على أسس عرقية وحاولت تكريس الأوكرانية الكاملة تقريباً على الحياة السياسية والثقافية خلال أواخر عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وهو جهد فشل بشكل ملحوظ.

 طوال حياته المهنية، اعتبر تولوتشكو أنّ السرديات عن التاريخ المفروضة أيديولوجياً تشكل خطراً بالغاً على المجتمع، سواء كانت نابعة من العقيدة الشيوعية أو من القومية الأوكرانية المعاصرة التي يوصف خطابها الحالي عن (أوروبية أوكرانيا الأصيلة) بأنه مجرد نسخة متدهورة من الروايات التي أنشأها المثقفون الأوكرانيون في مطلع القرن العشرين، لهدف وحيد هو تقسيم الأوكرانيين والروس والقول إنّ أصولهم المنفصلة دفعتهم إلى اتخاذ خيارات سياسية وثقافية متباينة؛ واحدة لمصلحة الليبرالية وأوروبا، والأخرى لمصلحة الاستبداد وآسيا.

يرى بيوتر تولوشكو أن مخاطر الخطاب الانقسامي التبسيطي تكمن في شيطنة النصف الشرقي من أوكرانيا بأكمله من دون اكتراث لـ3 عقود من النضال من أجل احترام خصوصيتهم الثقافية والدينية، إلى أن انفجر غضبهم عام 2014 عندما لم تترك لهم "انتفاضة الميدان" أي أمل آخر سوى العيش في أوكرانيا القومية الأكثر عدوانية. وعلى حد تعبير تولوتشكو، "يتعين علينا أن نلوم أنفسنا على رحيل شبه جزيرة القرم عنا، لقد دفعناها بعيداً".

منذ استقلال أوكرانيا، نشأ جيل كامل من دون أي فكرة عن التاريخ المشترك والحياة المشتركة في الاتحاد السوفياتي أو الإمبراطورية الروسية. لقد تم تصوير السنوات الثلاثمئة الماضية بالنسبة إليهم على أنها ليست سوى سلسلة من الصراعات بين أوكرانيا وروسيا، في حين أنّ الإمبراطورية الروسية، كما يقول تولوتشكو، كانت في الواقع نتاجاً مشتركاً للأوكرانيين والروس، ولا بد من تقاسمه بينهما في المجد والتراجع، تماماً كما يتقاسم الإسكتلنديون ذاكرة الإمبراطورية البريطانية ومسؤوليتها مع الإنكليز، "ولا توجد في نهاية المطاف طريقة أخرى لكي يصبح المرء مستقلاً بفاعلية حقيقية إلا بتحمل المسؤولية الشخصية عن أفعاله".

من ناحية أخرى، يوافق تولوتشكو القادة الأوكرانيين على أن اختيار أوكرانيا للهوية الأوروبية المسيحية تم قبل أكثر من ألف عام، ولكن هذا الخيار ليس خياراً اتخذه الأوكرانيون وحدهم، بل اتخذته بالأحرى عائلة الشعوب السلافية الشرقية بأكملها المعروفة باسم روس.

ولذلك، تذكر هذا التراث المشترك كان ضرورياً للحفاظ على الوحدة الوطنية. وقد ناشد بيوتر تولوشكو الزعماء السياسيين الأوكرانيين كي يدركوا أنّ هناك في الواقع عدة أنواع مختلفة من الأوكرانيين الأوكرانيين الروس، والأوكرانيين الأوكرانيين، والأوكرانيين البولنديين، والأوكرانيين المجريين، وما إلى ذلك.

إذا أصررنا على السياسات التمييزية في أوكرانيا، وعلى الفصل بين السكان الأصليين وغير الأصليين، وحظر استخدام اللغة، فسنصل حتماً إلى التفكك الاجتماعي والسياسي والثقافي بديلاً من تعزيز هوية واحدة لكل الأوكرانيين في المناطق الأربع واحتضان التعدد والافتخار بالتعايش بين تنويعات ثقافية في الهوية الواحدة.

ونظراً إلى توافق وجهة نظر تولوتشكو مع آراء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليس من الصعب أن نرى سبب إقالة تولوتشكو -في نهاية المطاف- من جميع المناصب الإدارية والمالية والسياسية، ومنعه من التحدث علناً في أوكرانيا. لقد صمد أمام مثل هذه القيود علمياً، وقال إنه لا يعيش في عالم اليوم، بل في العصور الوسطى.

حافظ تولوتشكو على تفاؤله بحذر بشأن مستقبل أوكرانيا، وظل ينظر إلى الأوكرانيين والروس كإخوة منفصلين، ومهما كانت اختلافاتهم، فإنهم محكوم عليهم بالتقارب بسبب تاريخهم المتشابك، وكان يحب أن يشير إلى أنّ العلاقات بينهم كانت تنتقل في كثير من الأحيان من القرب إلى الاغتراب، ثم تعود مرة أخرى. وربما تستمر الدورة الحالية لمدة طويلة، لكنه شعر في النهاية بالثقة بأنّ "المنطق السليم سوف يسود"، وكل ما هو مطلوب هو الصبر والتفهم والوعي بالتاريخ.