هل من سياسة خارجية غير استعمارية لأميركا وأوروبا؟

 موقع "Znetwork" ينشر مقالاً للكاتب دافور دالتو، يتحدث فيه عن العقلية الاستعمارية - الإمبريالية، وكيف تعمل الإمبراطورية الأميركية على تحقيق مصالحها.

  نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:

تكتسب القوى المناهضة للهيمنة الغربية المنكمشة مكانة بارزة في التاريخ الحديث، بعد تحرير معظم دول العالم من الحكم الاستعماري القمعي الملوّث بممارسة الإبادة الجماعية. لكن، من المستغرب أنّ بعض الباحثين في الغرب لم يكتشف فكرة وجوب إنهاء الاستعمار إلا مؤخراً. ربما لأن من غير المألوف لهؤلاء إنهاء الاستعمار من دون تأمين طرق مواربة ونموذجية بحماسة تبشيرية تتيح تسلل الهيمنة بلبوس مغاير.

لطالما أطربتنا المؤسسة السياسية الليبرالية، عند ضفتي الأطلسي، بخطابها بشأن موقفها الديمقراطي والحقوقي تجاه إنهاء الاستعمار. لكن، يكشف زيفَ هذا الخطاب، السياساتُ غير الديمقراطية، وغالباً ما تكون ضدية بالكامل، كما الالتزام بحقوق الإنسان، والذي يجري وسط انتهاكات فظيعة وجسيمة لكل الحقوق. وتحت ذريعة إنهاء الاستعمار، يتم إنتاج أشكال ضارية من الهيمنة الاستعمارية المتجددة.

لنأخذ مثالاً حديثاً يتعلق بالسياسات الخارجية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فمنذ نحو 3 أشهر، نشرت سفارة الولايات المتحدة في البوسنة والهرسك بياناً، عبر منصة "أكس"، أوضحت فيه الأهداف الغربية في ذلك البلد، بعد 30 عاماً عملت خلاله الإدارات الأميركية المتعاقبة، نيابة عن شعب البوسنة والهرسك، على تقرير مصيره.

وجاء في البيان: "لقد مارسنا ضغطاً سياسياً مستمراً بقوة من أجل تبني الإصلاحات المطلوبة لتعزيز تطلعات البلاد نحو الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. نحن هنا لتعزيز المصالح الأميركية وحمايتها والدفاع عنها. لقد كنّا واضحين تماماً بشأن هذا الأمر، ونحن ندعم سيادة البوسنة والهرسك، وسلامتها الإقليمية، وطابعها متعدد الأعراق، كما ندعم اندماجها في المؤسسات الأوروبية الأطلسية. هذه هي الأهداف التي نتقاسمها مع شعب البوسنة والهرسك".

لا شك في أنّ هذا البيان، الصادر عن سفارة، يُعَدّ مستفزاً جداً لأي أي بلد يتمتع بدرجة دنيا من السيادة، في ظل زعم السفارة التزام سيادة البوسنة والهرسك، من دون حساب للضرر الذي تفرضه على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، عبر تدخلها المشين في الشؤون الداخلية للبلد المضيف. بالطبع، هذا ليس حكراً على البوسنة والهرسك فقط، لكنها هنا حالة فاقعة. فالتصريحات، التي تصدرها سفارة الولايات المتحدة في سراييفو، وتعليقات السفير المنتظمة بشأن الأوضاع السياسية داخل البلاد، والتحيز إلى هذا الطرف أو ذاك، والتهديد والإدانة للزعماء السياسيين المنتخبين ديمقراطياً، على اختلاف توجهاتهم، تصرفات شائنة تم "تطبيعها" بالكامل بلا استهجان.

وتؤكد السفارة، في بيانها، أنّها موجودة هناك "لتعزيز المصالح الأميركية"، وفي الوقت نفسه "عملت أكثر من 30 عاماً، نيابة عن شعب البوسنة والهرسك"، كأنّ مصالح الولايات المتحدة وشعب البوسنة والهرسك متناغمة ومترابطة، بصورة طبيعية، وأنّ الولايات المتحدة كلّفت نفسها التصرف "نيابةً عن شعب البوسنة والهرسك"، الذي لم يمنح الولايات المتحدة قط مثل هذه الامتياز.

كل هذا يوضح العقلية الاستعمارية - الامبريالية، وكيف تعمل الإمبراطورية الأميركية على تحقيق مصالحها. ومع أننا هنا لتعزيز اهتمامات الشعب، لكن إذا وقع أي تعارض بين مصالحنا السياسية والتجارية، وسياساتنا، وأيديولوجيتنا، وبين مصالح البلد المضيف وسياساته، فهذا أمر سيئ للغاية بالنسبة إلى سكان هذا البلد، حين "تضطر "الإمبراطورية" إلى تعليمه بعض التحضر وإخراجه من "الجانب الخطأ من التاريخ". وهي العملية التي أدّت تاريخياً إلى عدد من عمليات الإبادة الجماعية. فمن المنظور الإمبراطوري، غالباً ما يفتقر السكان الأصليون إلى القدرة على فهم ما هو في مصلحتهم، لذلك يضطر السيد الإمبراطوري إلى "تحمل" هذا العبء الثقيل.

في سبيل تعزيز مصالحهم في البوسنة والهرسك، استخدمت الولايات المتحدة وأتباعها الأوروبيون أداتين قويتين. الأولى سياسية، هي مكتب "الممثل السامي"، والأخرى عسكرية من خلال حلف "الناتو". ويتم تعيين "الممثل السامي" من جانب "المجلس التوجيهي لمجلس تنفيذ السلام"، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، من دون أي شرعية ديمقراطية. وعلى مر الأعوام، لم يعد "المجلس التوجيهي" و"مجلس تنفيذ السلام" يحصلان على دعم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ويعمل "الممثل السامي" الآن فقط نيابة عن الإمبراطورية الأميركية كحاكم استعماري. وعلى مدى عقود، قدّم كثيرون من "الممثلين رفيعي المستوى" عرضاً كوميدياً مأسَوياً، تحدثوا فيه عن سيادة القانون والديمقراطية، ويقومون بدور صاحب السيادة، أمام صاحب السيادة الأصلي، فوق القانون أو المبادئ الديمقراطية.

كريستيان شميدت، "الممثل  السامي" الحالي، يعمل لدى سادته في واشنطن وبرلين، عاصمة ألمانيا، الدولة التابعة للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، والتي تحاول، بطريقة يائسة في بعض الأحيان، استعادة مكانتها كونها قوة أوروبية بارزة، واقتطاع مساحة شبه مستقلة، على الأقل في السياسة الخارجية، بعيداً عن الهيمنة الأميركية. ولم تنجح على الأرجح، مع أنّ يوغسلافيا هي أحد الملاعب التي عرضت فيها ألمانيا عضلاتها أكثر من 100 عام، واضطلعت بدور  فعال في تفكك جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية، ودعم قصف حلف "الناتو" لهذا البلد في عام 1999. وهي تطمح اليوم إلى تجديد هذا الدور  من خلال شميدت، الذي لا يشعر بعدم الارتياح أبداً إلى دوره كحاكم استعماري في بلد لا يزال الناس فيه يتذكرون الفظائع الهائلة التي ارتكبها المحتلون الألمان وحلفاؤهم المحليون في الحرب العالمية الثانية.

عبر منصبه "الرفيع"، يعامل شميدت السكان المحليين على أنهم متوحشون، يحتاجون إلى تعلم بعض الحضارة الغربية، جنباً إلى جنب مع الديمقراطية وسيادة القانون؛ أي على وجه التحديد ما يفتقر إليه هو ومن يمثل. فالديمقراطية وسيادة القانون هما، في الحقيقة، العدو اللدود لهذا الحاكم الاستعماري وأسياده الإمبراطوريين. ولو كان هناك حُكم للقانون، على أساس هذه القيم، فإنّ شميدت لن يكون في المنصب الذي يشغله حالياً (ولن يتمتع أيضاً بالراتب المذهل الذي يتقاضاه).

لا يحتاج المرء إلى التنظير، وأمامه الواقع المأسَوي لسلوك القوى الاستعمارية في البوسنة والهرسك وأماكن كثيرة غيرها. وما يسمى "القيم الغربية" ليس سوى سعي لهدف واحد، هو السيطرة والهيمنة الاستعماريتان اللتان تتجاهلان المصالح والثقافات للشعوب التي يقع عليها الظلم المتجلّي في معاملتها على أنها أقل شأناً، ويجب أن تظل مطيعة، ورؤوسها مطأطئة، حين يلقي السيد الاستعماري أوامره.

 غالباً ما يكون الأشخاص الأعلى صوتاً بشأن الحرب الروسية الأوكرانية، والذين يحذرون  من التوسع الروسي، هم أنفسهم غير ديمقراطيين، ويستشيطون غضباً إذا لم يتم تعزيز مصالحهم في مستعمراتهم إلى أقصى حد ممكن. لهذه الأسباب، فقدَ "الغرب الجماعي" صدقيته أمام الرأي العام العالمي، وكثيراً ما يُنظر إلى ادعاءات الحكومات الغربية، بشأن تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية، على أنها نكتة رديئة، أو حتى مزحة سمجة. إنّ هذا النفاق له تأثير كارثي في الحركات الديمقراطية الأصيلة، الأمر الذي يجعل عمل الذين يناضلون، بصورة حقيقية، من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، عملاً صعباً للغاية.

ما يتبقى لنا هو النظرية الوحيدة ذات المغزى في العلاقات الدولية اليوم، والتي أطلق عليها المفكر نعوم تشومسكي وصف "مبدأ المافيا"، وهي: "لا تعصي الأب الروحي". يحدد العراب خط الحزب، ومن المتوقع أن يتبعه الجميع. من المؤكد أنّ "قطيع العقول المستقلة"، كما وصف هارولد روزنبرغ المثقفين السائدين، سيوفر الخطاب اللازم كوسيلة لتبرير هذا الخطاب المضطرب والمثير للقلق، والتطبيع معه.