"يا شعبنا العظيم! متى تصحو؟!

في كتابه "أحمد الحورش الشهيد المربي"، الصادر عام 1982م، يستعيد الشاعر المقالح بتأثر وإجلال تلك اللحظة المهيبة التي خرج فيها الحورش إلى ساحة الإعدام عام 1948م.

يقول المقالح: "وفي الميدان ألقى أحمد الحورش نظرة عطف على الجماهير المحتشدة كالأخشاب، وأطلق صرخته الخالدة:

"يا شعبنا العظيم! متى تصحو؟!

كلما ارتفعنا بك شبراً سقطت ذراعاً!".

وامتد سيف الجلاد ليفصل الرأس العظيم عن الجسد النحيل وصعدت روح الشهيد المناضل محلقة في الفضاء وأقدام الجمهور ترتعش من الرعب، والأجساد المزدحمة تهتز كأوراق الخريف".

هذا العبارة المفعمة بحرارة العتب اليائس المرير انطلقت من حنجرة رجل نحيل جسماً، عظيم نفساً، وهو يقف على بُعد خطوة من جلاد يتأهب لقطف رأسه:

"يا شعبنا!

كلما ارتفعنا بك شبراً سقطت ذراعاً!"،

وقد أغرت المقالح فصدَّر بها قصيدته "حكاية مصلوب" التي كتبها عام 1968م، وقام بنشرها في ديوانه الأول "لا بد من صنعاء".

ولكن.. إذا كنتم لا تعرفون، فالمقالح نفسه تعرَّض للسجن وهو في مطلع شبابه،

وفي أي سجن؟ سجن نافع الرهيب!

أي أن للمقالح قصة قصيرة مع السجن في زمن الإمامة، (وبالتحديد عام 1953م)،

تماماً كما إن للبردوني قصة أطول مع اثنين من السجون الرهيبة: سجن القشلة في ذمار ثم سجن الرَّادع في صنعاء (أواخر عام 1948م)، وأشيع أن رأس البردوني سيطير، ولهذا كتب في مذكراته: "وخرجت من السجن إلى المدرسة فوراً لكي أستقبل التهاني بالسلامة، إلى حد أن الشيخ المقرئ حسين الدعاني قام إليَّ يتحسس رأسي مردداً: الحمد لله الذي أبقى هذه القِلقلة مكانها".

وقبلهما قصة الزبيري في سجن "المشبك" الرهيب بالأهنوم بداية الأربعينات، (وبعد السجن منفى وبعد المنفى رصاصة).

ومن الشعر الذي كتبه الزبيري في سجنه (عام 1942م)، نذكر هذا الابتهال الحزين:

يا رافع السبع السماوات الطباق العاليه

يا باسط الأرض السخية للورى والماشيه

رباهُ مالي لم أزل في كُربَةٍ متواليهْ

إما غريباً شارداً أو موثقاً في هاويهْ

وفي مقدمة كتابه عن الحورش، يخبرنا المقالح بإيجاز عن الفترة التي قضاها في سجن نافع وهو في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمره:

"أمضيت أياماً في السجن [يقصد سجن نافع في حجة].

كان الليل الأول رهيباً ومذهلاً.

أحسست بعد الغروب بأن الهواء قد توقف عن الحركة، وأن سقف السجن يضيق... وذهب الليل بطيئا مملا بين النعاس المتقطع والشعور بالاختناق، واستولى التفكير بالهجرة على كل حواسي المضطربة، وتحول كل ما قرأت من شعر ونثر -في ساعات- إلى أوراق يابسة. أدرك كل السجناء عمق الخوف الذي سيطر علي.

وحاول السجين الذي أحيا -في ذهني- أمل السفر إلى مصر أن يهدئ من فزعي، وأن يقنع ثريا كبيرا رمت به الرياح إلى السجن أن يقدم لي بعض المال أستعين به بعد خروجي من السجن للسفر إلى مصر لدراسة الحقوق، وسيكون ذلك المال دينا عليّ أن أرده في شكل كتاب عن حياة ذلك المحسن الكبير ضمن سلسلة عن أبطال الحرية في اليمن. وقد كان ذلك الرجل الثري ينام في السجن على كنز من الريالات الفضية يستثير بها حنق الفقراء من المساجين ويؤرق حرمانهم، وعندما استمع إلى وجهة نظر زميله عن ضرورة مساعدتي أصابه من الخوف على ماله والقلق على ضياعه أضعاف ما أصابني من الخوف والقلق من ظلام السجن.

حمدت الله أن ذلك الثري غير المحسن كان ضنينا بماله الحبيب ولم يوافق على المجازفة به، حتى لا أبقى مدينا له طيلة حياتي وأضطر تحت وطأة الوفاء والعرفان بالجميل أن أكتب عنه ولو صفحة واحدة في أي كتاب قد أخطه في المستقبل البعيد، وبذلك يظل ضميري مثقلاً بالندم.

كما حمدت الله أيضاً أن منحني الصبر وجعلني واحداً من آلاف الطلاب الذين أكملوا دراساتهم الجامعية والعليا في عصر الثورة، فلا يدينون بما وصلوا إليه من معرفة لأحد سوى للوطن ولدماء الشهداء ولأعلام الحرية الذين صنعوا بتضحياتهم العظمية سلسلة التحولات العظيمة في تاريخ هذا الشعب، فكان حقاً على جيلنا وعلى الأجيال القادمة من بعدنا أن ترد الدين وأن تتذكر أولئك الذين دفعوا حياتهم ثمنا لما نتمتع به اليوم وما سوف نتمتع به غداً من حرية التعليم ومن حرية التفكير والإبداع".

وهكذا.. فأن تعيش في زمن الإمامة، معناه أن تمتلك قصة سجن أو إعدام أو نزوح ونفي، ومن لم يُسجن أو يُعدم أو يُنفَى فلا شك أنه فكر في ذلك كثيراً وملأت عليه خواطره - حول هذه المصائر الثلاثة - ليله ونهاره.

الكاتب | محمد العلائي