ضبط مصطلحات الصراع اليمني.. بوصلة داخلية وعناوين خارجية

 في عالم يموج بالأحداث والصراعات، تلعب المصطلحات دورًا حاسمًا في تشكيل فهمنا وتوجيه ردود أفعالنا، ولا يشذ الامر عن ذلك في الصراع اليمني المستمر منذ انقلاب جماعة الحوثي علي الدولة قبل عشر سنوات، حيث تتجاوز أهمية ضبط المصطلحات حدود اللغة المستهلكة لتصبح أداة استراتيجية تؤثر على الشرعية، والإنقلاب، والتمرد، والسياسة الدولية، وحتى الروح المعنوية للمجتمع.

فعندما يُطلَق على جماعة الحوثي وصف "الإنقلابيين" أو "المتمردين"، فإن هذا ليس مجرد اختيار عشوائي للكلمات، بل هو تعبير محمل بالدلالات القانونية والسياسية والأخلاقية، فبينما تسعى الشرعية إلى الحفاظ على السيادة والدولة، يسعى الآخرون إلى تقويض هذه الأسس بهدف إعادة تشكيل النظام بما يتناسب مع مصالحهم.

مصطلحات مثل "الشرعية" و"الإنقلاب" و"التمرد" ليست مجرد كلمات في سياق الصراع اليمني؛ إنها تمثل مفاهيم تحدد من يملك الحق في الحكم، ومن يسعى إلى زعزعة استقرار الدولة، ومن يقف في وجه العدالة. تأثير هذه المصطلحات يمتد ليشمل الاعتراف الدولي، والمساعدات الإنسانية، والتدخلات العسكرية. فحينما يتم ضبط المصطلحات بدقة، تتضح المواقف وتصبح الإجراءات أكثر فعالية. أما عند غياب هذا الضبط، فتسود الفوضى، وتضيع الحقوق، وتصبح الحقائق مجرد آراء متنازع عليها.

من هنا، نبدأ رحلتنا في استكشاف الأهمية الجوهرية لضبط المصطلحات في الصراع اليمني، وكيف يمكن أن تؤثر هذه العملية على مسار الصراع، وفرص الحل السلمي، واستقرار المنطقة برمتها، وسنركز على المصطلحات الجامعة التي تضبط بوصلة الصراع في الداخل، وتقدم عنوان لجوهر الصراع للخارج.

الأهمية العملية لضبط المصطلحات

تلعب المصطلحات المستخدمة في الصراعات والحروب دورًا حيويًا داخلياً من خلال منح الصراع بعداً أخلاقياً وقانونياً، وتحفيز قوى المجتمع، وجمع طاقاته حول هدف مشترك، في المقابل تساهم خارجياً علي تشكيل الفهم العام والسياسات الدولية، وتحديد طبيعة الأطراف المتنازعة، وإطار المفاوضات، وآليات المحاسبة القانونية. فاستخدام مصطلحات مثل "الشرعية"، "الإنقلاب"، و"التمرد الحوثي" ليس مجرد مسألة لغوية، إعلامية، بل يتضمن دلالات سياسية، قانونية، وأخلاقية عميقة تؤثر على مجريات الصراع ومآلاته في اليمن، وتتجلى هذه الأهمية في:

أنها تؤثر مباشرة على الرأي العام وتشكيلته وفهمه للصراع. فمصطلح "الشرعية" يشير إلى الوضع القانوني المتوافق مع القواعد الدستورية والقانونية المعترف بها دوليًا ومحليًا، مما يعزز صورة الحكومة اليمنية كممثل شرعي للشعب، ويسهل عليها الحصول على الدعم الدولي. بالمقابل، وصف جماعة الحوثيين بالـ"انقلابيين" يبرز خروجهم على القواعد السياسية والقانونية المعترف بها، مما يعزز رفض شرعيتهم ويوجه الرأي العام المحلي والدولي نحو إدانة تصرفاتهم ودعم الحكومة الشرعية، أما مصطلح "التمرد"، فيشير إلى محاولة جماعة معينة السيطرة على الحكم بالقوة، مما يعزز صورة الحوثيين كجهة خارجة عن القانون والنظام.

ضبط المصطلحات يسهم بشكل كبير في تأطير الصراع وتوجيه الرأي العام. في سياق حرب غزة، مصطلح "المقاومة" يمنح شرعية للنضال ضد "الاحتلال"، مما يعزز دعم المجتمع الدولي للفلسطينيين. وبالمثل، في اليمن، مصطلح "الشرعية" يرسخ صورة الحكومة اليمنية ككيان شرعي يحتاج إلى الدفاع السياسي والدعم المادي والعسكري ضد التهديدات الداخلية والخارجية. في المقابل، مصطلحات مثل "الانقلاب" و"التمرد الحوثي" تؤطر الصراع كمعركة بين حكومة شرعية وقوى انقلابية غير شرعية، مما يؤثر على السياسات الدولية في اتخاذ مواقف مناهضة للانقلاب والتمرد ، كتصرفات تقوض الأمن والسلم العالمي، ويعزز الدعم للحكومة الشرعية.

على المستوى السياسي والدبلوماسي، يعزز مصطلح "الشرعية" موقف الحكومة في المفاوضات الدولية، مما يمنحها قوة تفاوضية أكبر إذا أحسنت استغلالها. في المقابل، يضع مصطلح "التمرد والانقلاب الحوثي" ضغوطًا على المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات ضد الحوثيين ودعم الحكومة الشرعية، خصوصًا في ظل التوجه العالمي المتزايد نحو رفض الانقلابات والتمسك بالخيارات الديمقراطية.

من الناحية القانونية والأخلاقية، يُعَد ضبط المصطلحات أمرًا بالغ الأهمية للأطراف المتنازعة والمجتمع الدولي. تختار الأطراف في الصراعات مصطلحات العمليات العسكرية بعناية للبحث عن غطاء أخلاقي وشرعي. نتذكر خطاب بوتين الطويل الذي استعاد فيه التاريخ الروسي قبل غزو أوكرانيا، وفي الصراع اليمني لا يختلف الأمر. فالمصطلحات تلعب دورًا محوريًا في توفير غطاء لشرعية العمليات العسكرية. فمصطلح "الشرعية" يوفر للحكومة اليمنية إطارًا قانونيًا للدفاع عن نفسها واستعادة السيطرة،

كما يمنح مبررًا قانونيًا للتدخل الدولي لصالح الحكومة الشرعية. بالمقابل، يُساهم مصطلح "الانقلاب والتمرد الحوثي" في تحديد الأعمال العسكرية للحوثيين كأعمال غير قانونية، مما يسهل محاسبتهم أمام المحاكم الدولية. وهذا الضغط يدفع الجماعة الإنقلابية إلى محاولة إيجاد حلول، مثل البحث عن شرعية المظاهرات أو التضامن مع غزة، لتخفيف الأزمة القانونية والأخلاقية التي تواجهها.

للمصطلحات أهمية حاسمة تتجاوز ساحة المعركة لتؤثر على مواقف المجتمع الدولي من الحرب وأطرافها. فمثلاً، مصطلح "الشرعية" يمنح المجتمع الدولي الأساس القانوني لدعم الحكومة اليمنية من خلال قرارات مجلس الأمن الدولي والمنظمات الدولية الأخرى. على الجانب الآخر، مصطلح "الانقلاب والتمرد الحوثي" يفتح الباب لمساءلة الحوثيين عن انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب أمام المحاكم الدولية. هذه المصطلحات ليست مجرد كلمات، بل أدوات قوية تشكل المواقف والسياسات الدولية تجاه الصراع وأطرافه.

اختيار المصطلحات وضبطها يسهم بشكل كبير في تعزيز فكرة العدالة من خلال تحديد الجهات المتسببة في النزاع ومحاسبتها. هذا الإجراء يترتب عليه مسؤولية قانونية على المجتمع الدولي في منع تدفق السلاح إلى الأطراف المتمردة لحماية المدنيين. في معركة الحكومة الشرعية اليمنية ضد التمرد الحوثي، ومثلاً في السودان، حيث تواجه الحكومة الشرعية تمرد قوات الدعم السريع التي ارتكبت فظائع ضد المدنيين، تصبح الدول المتورطة في دعم المتمردين مسؤولة عن الجرائم المرتكبة. هذه الدقة في استخدام المصطلحات تساعد في تحميل الأطراف المتورطة المسؤولية القانونية وتدعم الجهود الدولية في الحفاظ على السلام والأمن.

وأخيرا يساهم ضبط المصطلحات في فتح الباب لمساءلة الأطراف الفاعلة عن انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب، كما يحدد توجهات الدول في بناء تحالفاتها وتقديم الدعم السياسي والعسكري. الأهم من ذلك، أن ضبط المصطلحات يساعد في رسم إطار واضح للمفاوضات وحل النزاعات، مما يساهم في تعزيز العدالة وتحديد المسؤوليات بشكل دقيق، وبالتالي يدعم جهود المجتمع الدولي في تحقيق السلام والاستقرار.

معايير ومدلولات ضبط المصطلحات

1. الشرعية:

- مدلول الشرعية: يشير مصطلح "الشرعية" إلى الحكومة المعترف بها دوليًا، وهي حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، تستمد هذه الشرعية من نتائج الانتخابات وآليات الانتقال السياسي المتفق عليها دوليًا، بما في ذلك المبادرة الخليجية وقرارات الأمم المتحدة مثل القرار 2216 ، وتستند الشرعية إلى اعتراف دولي ومؤسساتي، مما يمنحها الحق في التمثيل والتفاوض واستلام المساعدات الدولية.

حاليا يمثل مجلس القيادة الرئاسي شرعية تفويضية ويستند علي الاعتراف الدولي الذي اعترف بمخرجات مؤتمر الرياض.

2. الانقلاب والتمرد الحوثي:

- مدلول الانقلاب: يُستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى استيلاء جماعة الحوثي على السلطة بالقوة في عام 2014، عندما سيطروا على العاصمة صنعاء وأجبروا الرئيس هادي على الفرار. هذا الفعل يتعارض مع الدستور اليمني والاتفاقيات السياسية القائمة، مما يجعله انقلابًا.

- مدلول التمرد: يُعبّر مصطلح "التمرد الحوثي" عن الفعل المسلح لجماعة الحوثي ضد الحكومة الشرعية، ويُعد خروجًا على السلطات الدستورية باستخدام القوة العسكرية.

3. المجلس الانتقالي  

- مدلول المجلس الانتقالي: يُشير إلى الكيان السياسي والعسكري الذي يمثل الجنوب اليمني، ويدعو إلى انفصال الجنوب عن الشمال. يتكون المجلس من فصائل متعددة ويقوده عيدروس الزبيدي ، المجلس الانتقالي لا يتمتع بشرعية دولية كاملة، لكنه يحصل على دعم محلي وإقليمي من بعض الأطراف، مما يعقد المشهد السياسي اليمني.

ويشير مصطلح "المدعوم من الإمارات" أو خارجياً إلى الجهات أو الفصائل التي تتلقى دعماً مادياً، عسكرياً، أو سياسياً من دول أو جهات خارجية ، يمكن أن يكون هذا الدعم على شكل تمويل مالي، تسليح، تدريب، أو حتى دعم سياسي ودبلوماسي في المحافل الدولية، ويترتب عليه آثار قانونية كانتهاك السيادة، المساءلة القانونية للدول المتورطة في الدعم فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الانسان ، تأثيره السلبي علي صورة الشرعية وعملها، وهذا الأمر ينطبق علي العديد من الفصائل التي يثبت تورطها مع دول خارجية ، وفي مقدمتها أيضا جماعة الحوثي "المدعومة من إيران" ، او "المقاومة الوطنية " في الساحل الغربي من مدينة تعز.

4. المقاومة الوطنية:

- مدلول المقاومة الوطنية: يُشير إلى الفصائل المسلحة التي تقاتل ضد جماعة الحوثي بدعم من التحالف العربي. تشمل هذه المقاومة قوات متنوعة منها قوات العمالقة، وحراس الجمهورية بقيادة طارق صالح، وقانونياً تعتبر جزءً من القوي المدعومة خارجيا ماليا وعسكريا من قبل دولة الإمارات، وتدين بالولاء لها، وإن كانت جزءً من الحكومة الشرعية.

خطورة عدم ضبط المصطلحات

تعدد المصطلحات في الصراع يتسبب في خلق حالة التباس في فهم القضية وسوء الفهم والتفسير الخاطئ للأحداث والمواقف مما يخلق مواقف مائعة، وينعكس في ضعف تفعيل القانون الدولي، وبطء جهود المحاسبة القانونية ، 

ويساهم في انتشار الأخبار المظللة والدعاية السياسية، وخطاب الكراهية، والأخطر ضعف الباعث الأخلاقي للصراع، وانكشاف حالة المقامرة، وبروز الشخصنة للصراع مما يطيل أمد الصراع وتفتت الأهداف التي يسعى لتحقيقها.

مصطلحات "سلطة حزب" و"سلطة مدينة" قانونياً

شاع في الفترة في الحرب اليمنية استخدام مصطلحات أولا لا تقوم علي سند قانوني أو أخلاقي، وتقدم حالة ملتبسة للصراع اليمني، بل وتضعف من السردية الشرعية، لصالح الطرف المتمرد، حيث من المهم العودة إلى الثوابت الدستورية والوطنية في ضبط مصطلحات الصراع،

ومن اهم هذه المصطلحات التي برزت منذ فترة وتتأجج بسبب خلفيات سياسية، وفكرية معينة، مصطلح سلطة حزب، كما يطلق علي السلطة المحلية في تعز، إشارة إلى حزب الإصلاح ، وهو مصطلح لا يطلق إلا في حالة سيطرة حزب سياسي على الحكومة أو جزء منها عبر وسائل ديمقراطية مشروعة كالفوز في الانتخابات أو تشكيل تحالفات برلمانية، مستنداً في ذلك إلى الإطار الدستوري والقانوني للدولة، ويشترط وجود اعتراف رسمي من المؤسسات القانونية والدستورية، وهو مالم يتم في تعز، أو مارب،

فالموجود سلطة محلية تعمل في إطار الشرعية، يحكمها الدستور وقانون السلطة المحلية، وتسويق مثل هذه المصطلحات يساوي بين الجماعة المتمردة في صنعاء، وبقية المكونات للسلطة الشرعية والخاضعة، ويتم التعين والإقالة عبرها، وبالتالي أي أخطاء يجب أن يتم توصيفها ضمن الإطار الدستوري والشرعي، بمعني يمكن نتحدث عن انتهاكات أو أخطاء مارستها السلطة المحلية بمأرب أو تعز، وعلي السلطة المحلية والمركزية تحمل مسؤولية وقف أي انتهاكات تعسفية ضد الأفراد أو الجماعات.

كما أن إطلاق مصطلح "سلطة مأرب" مثلاً غير حصيف، حيث يعبر مثل هذا المصطلح عن سيطرة مجموعة أو فصيل محلي على مدينة معينة، سواء عبر وسائل مشروعة كإدارة محلية منتخبة أو عبر السيطرة بالقوة ، وهو مصطلح لا يستند إلى شرعية قانونية أو انتخابية أو حتى القوة، حيث واقع الحال عكس ذلك، هناك سلطة مركزية مازال لها سلطتها في التعيين و والاقالة وإدارة الموارد ضمن الموازنة العامة للدولة، وهو مصطلح يقدم صورة لحالة مضطربة للشرعية، لا يفرق بينها وبين جماعة منقلبة في العاصمة صنعاء.

مثل هذا الانفلات في استخدام المصطلحات يخلق حالة من الالتباس للمراقب الخارجي حول الجهة الشرعية، خاصة دون معرفة للسياقات التي تستخدم فيه سواءً إعلامية أو سياسية أو في سياق المناكفة، وبالتالي يساهم في ضعف هيبة الدولة، وتقويض الاستقرار السياسي وزعزعة الثقة في المؤسسات الحكومية، ويساهم في تأجيج الصراعات الداخلية وزيادة التوتر بين الفصائل المختلفة.

الخاتمة

ضبط المصطلحات في الصراع اليمني ليس مجرد ضرورة لغوية، بل هو أساس للفهم القانوني والسياسي للأحداث. يساهم في تعزيز الشرعية الدولية، وتطبيق القانون الدولي، وتوجيه السياسات الداخلية والخارجية نحو حلول عادلة ومستدامة. من الضروري أن تلتزم الأطراف المعنية بالدقة في استخدام المصطلحات لضمان الوضوح والفهم الصحيح، مما يسهم في إنهاء الصراع وبناء مستقبل مستقر لليمن.

توفيق الحميدي - محامي وناشط حقوقي وسياسي يمني