إخفاقات أممية ودولية جديدة

 الحرّية ليست محصورة على المكان والزمان، ولكنها ترتبط بالفكر والوجود دون قيود أو شروط أو إملاءات مذلة، سواء في السلم أو الحرب. ولكي تُخلق الحرّية يجب تدمير سجون العقل وإطلاق العنان لحرية التفكير واحترام القدرة على الاختلاف دون تعصب أو تمييع للقضايا الجوهرية.

ودحر أية ديكتاتوريات قمعية تُكرّس التجهيل الممنهج وتزرع الخوف في نفوس المجتمع أو تجبره على تجنّب النقاشات التي تمسّ الأصنام البشرية التي أوجدتها الصّراعات الرّجعية المتخلفة، والتي يراد أن يصبح الدائرون في فلكها خرافاً مطيعة، يتم استنساخها باستمرار لممارسة أدنى مهام امتهان الخلق في كلّ مكان وزمان، ومن المؤسف القول إن عملية التجهيل الممنهج في اليمن قد وصلت حدّا يراد للمواطن فيه أن يتجاهل أنه نموذج حيّ ونتيجة طبيعية لخوفه وتردّده وخنوعه.

من يشرح ذلك لمجلس الأمن والأمم المتحدة اللذين يريدان فرض تسوية لا محاسن لها سوى شقّ وحدة الصفوف العربية وزرع مسمارٍ تلو آخرَ في معظم أنظمة المنطقة، ومنح إيران هدايا مجانية أخرى نظير تآمرها على العرب وقضاياهم، والتضحية بقضايا المسلمين، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي تحولت إلى ورقة تسعى إيران وأذرعها إلى استثمارها في استدرار عواطف العوام وتسييرهم لتحقيق مآربها، وبناء حلقات وصل مع اللاعبين الكبار الذين يسعون إلى توطين قوى مُتعصّبة وفرضها بالقوة لاستكمال مشاريعهم التدميرية في المنطقة واستغلال خرافة استهداف المصالح الغربية لتعزيز التوجه العالمي للهيمنة على الشرق الأوسط وموانئه، وبالتالي إبقاء المنطقة على عتبة الدّمار والتخلف.

إنّ تسوية ظالمة مثل هذه ستضع ما تبقى من الرّقاب على المقصلة، ليس على صعيد اليمن فقط، بل على صعيد الجزيرة العربية، التي أصبحت هدفاً دائماً لجميع التيارات الدّينية.. فالتيارات الشّيعية ترى أنها الأحقّ بإدارة المُقدّسات والتحكّم في القرارات السّياسية ومنابع الثروة؛ في حين لا تعترف بأية فئة من فئات الشّعب وترى أن الجميع يعارضها ويعارض أهدافها، التي لم تتحاوز تمجيد نفسها كجماعة؛ بينما ترى التيارات الأخرى أنها خُذلت ولم يُعد للإسلام جدران ساندة حقيقية تحميه وتحمي الإرث التاريخي الذي تمّ التآمر عليه كثيرًا ولا يزال الجميع يخذلونه. ولم يعد مُستغرَبا أن نرى بأمّ أعيننا انهيار وتآكل المحور السنّي بهذه البساطة أمام المؤامرات الدولية التي تمنح أذرع إيران المزيد من الفرص لتدمير شعوب المنطقة بما تحمله من ثقافات متنوعة ومتباينة.

هذه التسوية ستفشل، لأنها ليست سوى إخفاق آخر يضاف إلى قائمة الإخفاقات الدولية السّابقة، ولعبة مكشوفة من الأمم المتحدة ومجلس الأمن اللذين خاتلا الجميع بتهرّبهما من تطبيق قرار واحد مُنصف في حق الشّرعية اليمنية وشعوب المنطقة، في حين عملا على شرعنة أذرع إيران ودعم مشاريع إيران التخريبية وتدمير أنظمة المنطقة الشّرعية التي تعدّ الامتدادَ الحقيقي للعمل السياسي وواجهة البلد السياسية، ممارسين المكر السياسي والدّفع بالعابثين المحليين لمطالبة المجتمع الدولي بتشظية القضية من الدّاخل بحجة أن الدولة الشّرعية لم تعُد ترعى مصالح الشّعب، ومدعين أن وجودها لم يعد له معنى، وهذا يعكس جليا عجز بعض الأطراف عن التفريق بين المطامح الشّعبية والمطامع الدولية.

وإذا نظرنا بواقعية أكبر سنجد أن المعطيات الحالية تحقق أهداف إيران المعلنة وغير المُعلنة حتى بعد مصرع رئيسها وبعض القيادات الهامة في حادث يكتنفه الغموض، وما الاتفاقيات التي عُقدت ولا زالت تُعقد معها إلا شراك لإيقاع الجميع عندما تتهيّأ الفرصة، بمباركة من دول الغرب، التي كانت في بادئ الأمر تسعى إلى الحصول على أيّ ضمانات من أي نوع كان للاستئثار بثروات ومدخرات المنطقة.

وفي سبيل ذلك أوجدت أذرع إيران وسخّرتها لتكون الوقود الذي سيكفل ضمان وديمومة ابتزاز دول الخليج.. فالصّراع العالمي الجنوني على الشّرق الأوسط "رئة العالم" يجب أن يستمر من وجهة نظرهم لتغطية نفقات الصّراعات الجارية في أنحاء العالم. ولهذا يجب أن يظل الخليج محاطاً ببؤر الصراعات والفوضى، لضمان تدفّق التمويلات اللازمة لتمويل بقية الصّراعات في أصقاع الأرض.

استناداً إلى لعبة التوازنات الحاصلة، والتي تخدم اللاعبين الكبار أنفسهم وقع ما وقع في أفغانستان، التي تمّت إعادتها لطالبان بطريقة ماكرة لتحقيق نوع من التوازن الدّيني وضمان وجود ورقة ضغط سنّية لكنها بعيدة عن العالم العربي المُمزّق، يمكن لعدة أطراف استخدامها وقت اللزوم. وتعرف أمريكا وبريطانيا خطورتها جيداً، لهذا سعت إلى ضمان وجود ماكينة تفريخ سنّية في الاتجاه المضادّ للاتجاه الشّيعي من حيث التوجّه، لكنه يعدّ خط رجعة وأداة بعيدة المدى.

وهُنا يتضح جلياً مدى وحجم التجاهل لأبجديات السّياسة التي يجب أن يتم التعامل بها في إدارة الصّراعات التي تطال وتمس الدول العربية، والتي تنص على أن حكم أية ميلشيات له تبعات وجودية خطيرة سياسياً وإنسانيا، بحكم أنه ينطلق من مرجعية زائفة تهضم حقوق فئات لحساب أخرى، علاوة على أن ممارستها اضطهاد لا مثيل له خدمةً للآخرين الذين يدورون في دائرة تلك الدول.

وهنا يتضح جلياً كيف تستثمر الأمم المتحدة ومجلس الأمن خلافات الشّعوب المقهورة التي تتبخر قيم مواطنيها الإنسانية والاجتماعية كالدخان، ويعجزان أو بالأحرى لا يرغبان في تكوين رؤية للواقع الذي تعيشه هذه الشّعوب، وبالتالي يصبح من الصّعب عليها التوصل إلى الحلول العملية للإصلاح بعيدا عن ترميم ما أتلفته أنانية صناع القرار فيها، وهُنا يجب تركيز الجهود على بعث بوادر أمل لأولئك الذي جُبلوا على تجميد عقولهم لسبب أو لآخر، والعمل على إبقاء فكرهم الوطني متوقداً، بسبب عمليات الإقصاءات التي طالتها مؤخّرا بغية إبقائها خارج إطار التأثير، والتي وصلت إلى تصفية أصحابها أو تغييبهم في السّجون، خلف الجدران أو تحت الحصار والإقامات الجبرية.

فمن يمنح المليشيات الغطاء السّياسي في المحافل الدولية والحكم بالقوة للحفاظ على مصالحه لا يمكنه أن يتعاطى مع مسألة حق الشّعب في ممارسة السلطة وفق أدبياتها المتعارف عليها، لأنه لا يهتمّ بحقوق المواطنين ومستقبلهم بقدر اهتمامه بتعزيز وجود صراع مذهبيّ استغلالي يطغي ويتجبّر ويمارس الظلم تحت مظلته وبرعاية اللاعبين الكبار أنفسهم،

وهذا هو الظلم الذي يحاول النافذون ألا يشعر به المغلوبون على أمرهم، ولا يريدون أن تتطرق له الأجيال الجديدة التي يتم تغييبها عن الوعي وتمييع قضاياها بأسلوب متعجرف، وإغراقها في مناقشة أدوار الجمعيات والمنظمات الحقوقية الجانبية التي يعلم أنها إنما تتواجد لأغراض سياسية دولية وفي المناطق التي يريد لها المُتحكّمون في خيوط اللعبة أن تتواجد فيها، بغضّ النظر عمّا إذا كانت النتيجة ستقضي على ثقافة شعب كامل وتعمل على تجريف هويته وتاريخه السّياسي وتعطيل مصالحه ومصالح أبنائه، في تهرّب صريح وتنصّل من المسئوليات الأممية والعمل على تعطيلها، وإعطائه الضّوء الأخضر لتدمير البلد أو رميه في البحر وتشريد أبنائه وتجويعهم، وهذا يعدّ أحد أنواع الإبادة الجماعية.

ان فلسفة بناء الدول لا تقوم على رغبات الجماعات التآمرية بل باتفاق وتوافق المنظومة الاجتماعية والسّياسية على مصالح تجمع الكل وتدفعهم إلى إنشاء كيان اسمه "الدولة" يتمّ إسباغ النظم والقوانين التي تخدم الجميع عليه، ويجب أن ينظر إليها المجتمع الدولي من زاوية المصلحة العامة لمواطني هذه الدولة باعتبارهم جزءاً من لا يتجزأ من العالم، بعيداً عن استخدامها كوسيلة ضغط على النطاق الجغرافي المحيط بها، لأن خطوة مثل هذه ستجلب الدمار والفقر، ويصبح السّواد الأعظم من القاطنين في البلد والبلدان المحيطة إلى القلق وانعدام الأمان أقربَ، وستتحول المنطقة إلى كُتل بشرية "معطلة"، ما سيدفع بعضها إلى الالتحام والتقارب مع مراكز الغوغائية من قوى الدّاخل والخارج لتحقيق مآربها. ومن ثم ستتصدر الصّفوف الأمامية في وجه إخوانهم، دفاعاً عن وجود الأرستقراطية بحكم الولاء المطلق لرموز الغوغائية.

الملفت في الأمر أن كل مرحلة تمرّ تخدم طرفاً من الأطراف الميلشياوية وتساعد في سحب البساط أكثر من تحت أقدام الأنظمة الشّرعية. وإذا كان التاريخ لا يعيد نفسه، فإن ألاعيب مراكز القوى العالمية تُعيد نفسها وتُكرّر تجاربها التي تخدم إيران أكثر. فمؤخراً غاب تفنن الأمم المتحدة في إدارة الصّراعات وأصبحت تميل بصورة مفضوحة إلى تقوية الميلشيات لتسهيل عمليات الابتزاز السياسي التي تخدم النافذين وصُناع القرار، في تكرار مملّ لما جرى في العراق، وكأنها تقول للعرب نحن نرسم لكم الواقع الذي تعيشونه، ولم نشارك لنحرّركم من براثنه، ولكن لنضاعف مواجعكم وعليكم استيعاب هذا الأمر بالطريقة التي نريد وليس بالتي تشعرون بها.

لقد كان للحرب اليمنية بالغ الأثر في حصول ردود الأفعال المتناقضة في المنطقة، وفي الانقسامات الحالية الحاصلة، وفي التحالفات التي نشأت وما زالت تنشأ بين الفينة والأخرى.. وخطوة إلى الأمام في حسم الحرب اليمنية عسكرياً أهمّ بكثير من الغوص في الأمور الجانبية، على حساب قضية تعدّ نقطة ارتكاز لتغيير حاضر المنطقة ومستقبلها وتصفيتها من شوائب المذهبية، التي ستطال المنطقة بأسرها. وفي حال أهملت عملية الحسم العسكري ستكون التبعات اشدَّ وأنكى.

فعلاوة على تخبّط المجتمع يميناً ويساراً، برزت فئات مُتعصّبة تمتهن وتقتات من القتل والسلب والابتزاز، وهذا معناه سقوط وتهاوي المجتمع سنوات أو ربما عقوداً أخرى. وقد تغرق معه بعض الفئات في الخنوع إلى درجة اقتتال أبنائها بسبب الشقاء الذي يعانونه، والذي يطال حريتهم وكرامتهم معاً، بعد أن أقنعوهم بأن العيش بأية حال وتحت أي ظرف كان أفضل من الهلاك أو العقاب..

وهذا الأمر يؤدي في نهاية المطاف إلى تآكل الهوية الوطنية التي لطالما افتقر الشّعب إلى تعزيزها، بحكم أنها الوسيلة التي تقف حداً بينه وبين الاستغلال بكل أشكاله، بالإضافة إلى ارتباطها بكينونة الوطن والمواطن، وأهم وسيلة لمعرفة مدى قدرة المجتمع على التعبير عن نفسه، والتي تصبح معها عملية اصلاح حال المجتمع ضرورة مُلحّة ومسؤولية تقع على عاتق الجميع، بعيدا عن تأثير القوى التي تساومه على حرّيته وتسعى إلى مقايضة سكوته بالنزر اليسير من قوته المصادر.

ومن المؤسف القول إنه حتى هذه اللحظة لم يستطع اليمن ودول دول المنطقة تخطي الحاجز النفسي الجماعي في ظل احتدام المنافسة الغربية على إسقاط أنظمتها حتى بعد أن تيقنوا تماماً من أن وسائل التنمية والتقدّم فيها مرتكزة على قاعدة هرم اجتماعي تقوم أساسا على التفاوت والتباين لا التوافق والانسجام، بل ولا تضع الاختلافات على سطح واحد..

وكان من شأن ذلك أن يجعل الفرص تتضاءل أمام دول المنطقة في إحداث تقدّم حضاري أو اجتماعي، سواء على مستوى الحكومات أو على مستوى الأفراد، والبقاء في دائرة الصّراعات المذهبية والطائفية لا السياسية والاقتصادية. وإذا لم تُفضِ التدخّلات الأممية إلى تغيّر الوضع إلى الأفضل فاشطبوا اليمن وغيرها من الدول التي يتم إعطاؤها هدايا مجانية لإيران من سجلات عضوية الأمم المتحدة وامنحوا شعوبها الحق في تحرير نفسها، ولا تفرضوا عليها المزيد من القيود.. فما نراه اليوم كفيل بإسقاط ثقة الشّعوب والأنظمة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن على السواء.

في المجمل، إذا تمّت هذه التسوية فعلى اليمن ودول المنطقة أن تتوقع اسوأ الاحتمالات، لأن هذا سيضع الجميع في مأزق حقيقي حتى بعد توقيعها على أية اتفاقيات دولية أو إقليمية، ففي السياسة لا يوجد اتفاقات ضامنة، والصّراع صراع مصالح. وبما أن ما يراد للمنطقة عبر بوابة اليمن أفظع بكثير ممّا يطرحه المحللون، فلا بد من معالجة التعقيدات التي أسهم في حياكتها مبعوثو الأمم المتحدة، وما زالوا، لا سيما بعد ثبوت تواطؤ وتورط مجلس الأمن في إخراج النوايا المكبوتة ضد الجزيرة العربية والعرب إلى السطح..

وكشفت اللعبة أن مبعوثي الأمم المتحدة لم يكونوا رسلاً جيدين في التعامل مع المناورات السياسية المعقدة التي كانت ولا تزال تجري على قدم وساق، والتي تضع الجميع على المحكّ. وقد تزداد حدّة التوترات بعد تدخّلهم، إذ ناقضوا أهداف الأمم المتحدة ومجلس الأمن بإيعاز من اللاعبين الكبار وداروا عكس عقارب الساعة عن قصد وسخّروا جهودهم لوأد إرادات الشّعوب، وتقليم أظافر الأنظمة الحقيقية التي تريدها الشّعوب المكلومة، لمصلحة إيران وأنظمتها التي تمارس الاستبداد وتُكرّس المذهبية في أبشع صورها.

فضل الكهالي